مقالات

اليمن المغيّب: رهين الحسابات الإقليمية والدولية

15/05/2025, 13:30:30

يتساءل البعض عن أسباب غياب الملف اليمني عن جدول أعمال زيارة ترامب الأخيرة إلى الرياض، رغم كونه واحدًا من أكثر الملفات التصاقًا بالمصالح السعودية، وتعقيدًا في محيطها الجيوسياسي.

فهل كان الغياب دلالة تجاهل أم تعبيرًا عن عجز؟ وهل أصبح اليمن خارج القدرة السعودية على الإدارة والتوجيه؟ أم أن ما جرى هو اعتراف ضمني بأن الملف قد أفلت من اليد السعودية، وبات مشرع الأبواب أمام طوفان القوى الإقليمية والدولية المتزاحمة على اقتسامه؟

لقد تحوّل اليمن، كما يظهر اليوم، إلى ساحة صراع إقليمية ودولية مفتوحة، ولم يعد شأنًا داخليًا صرفًا يمكن لأي من القوى الحالية، سواءً تلك التي تحمل شعارات وطنية جامعة أو التي تتحرك في إطار مشاريع ضيقة (مناطقية، مذهبية، فئوية، حزبية، أو حتى قبلية)، أن تديره أو تسيطر عليه منفردة.
 
منذ عقود طويلة، تبنّت السعودية سياسة إستراتيجية طويلة النَّفس تجاه اليمن، قائمة على الإضعاف المنهجي والتفكيك الناعم عبر أدوات محلية متعددة. فمن دعمها المبكر لفلول الملكيين في الستينات، الذين شكلوا نواة ظهور الحوثيين لاحقًا، إلى احتضانها لجماعات دينية وقبلية وسياسية متعددة الألوان والانتماءات، ظلت الرياض تزرع وتؤسس لبنية يمنية تابعة وهشًّة، تخدم تصوَّرها لليمن كعُمق أمني لا ينبغي له أن يتحوّل إلى دولة قوية مستقلة.

وقد بدا لوهلة أن السعودية تمسّكت بهذه الرؤية حتى بعد اندلاع الحرب في 2015، فلم تعمل على بناء دولة يمنية موحّدة بقدر ما سعت لتوظيف الشرعية اليمنية كغطاء لتحالفها العسكري، مع الإبقاء على أدوات التمزيق والتفتيت نشطة وفاعلة على الأرض. وهو ما أفرز واقعًا ميدانيًا متعدد السلطات والمليشيات والمشاريع المتناحرة، فتح شهية الآخرين للدخول على الخط.

فقد استغلت إيران هذا الفراغ لترسيخ حضورها عبر الحوثيين، الذراع الأكثر انضباطًا وولاءً لها، بينما وجدت الإمارات في جنوب اليمن وساحله الغربي مجالًا خصبًا لتمرير أجنداتها الخاصة، متكئة على مليشيات محلية انفصالية أو مناطقية تموّلها وتدرِّبها.

أما تركيا، وإن كانت تتدخل بأسلوب ناعم وخفي، فإنها تراقب المشهد وتتحيّن الفُرص، مستفيدة من علاقتها بجماعات سياسية واجتماعية يمنية لها حضور واسع. وإسرائيل، من جانبها، وجدت في الفوضى القائمة غطاءً يسمح بمدّ النفوذ عبر الحليف الإماراتي، لا سيما في مناطق إستراتيجية كجزيرة سقطرى.

هذا الانكشاف الإقليمي فتح الباب واسعًا أمام اللاعبين الدوليين. فبريطانيا تجد في النفوذ الإماراتي مدخلًا لإحياء مصالحها التاريخية، وأمريكا تواصل مقاربتها التي تُراعي مصالح أمن الخليج وتوازناته، فيما تسعى روسيا والصين لحجز موطئ قدم في المعادلة، كلٌ بطريقته، إما عبر السلاح أو عبر الاقتصاد.

كل هؤلاء يتقاسمون اليمن، بعضهم بشكل مباشر، وآخرون عبر أدواتهم المحلية التي أصبحت أطرافًا فاعلة في مشهد الفوضى المركّبة. والسعودية، التي كانت تأمل أن تكون الراعي الأول والمهيمن، تجد نفسها اليوم في موقف لا تُحسد عليه: بلد مُمزق، شرعية مشلولة، حلفاء منقسمون، وأعداء يتمددون بثقة.

وهنا لا بُد من الإشارة إلى أن هذا المآل ليس قدرًا مفروضًا، بل نتيجة طبيعية لعقود من السياسات السعودية القاصرة، التي لم تكتفِ بتقويض فرص النهوض اليمني، بل رعت منظومة محلية من التبعية والولاءات الضيِّقة داخل اليمن، شملت طيفًا واسعًا من القوى السياسية والاجتماعية والدِّينية والعسكرية، بدءًا من فلول الملكيين وانتهاءً ببعض مشايخ القبائل ورموز الأحزاب والمليشيات التي لم تنظر لليمن كدولة بل كغنيمة أو هامش نفوذ.

لقد ساهمت هذه المقاربة في تحويل اليمن إلى دولة منهكة، ممزقة الإرادة والسيادة، تسكنها المشاريع وتتنازعها الأجندات، وأنتجت واقعًا معقدًا لا يمكن لأي طرف اليوم أن يديره أو يهيمن عليه بشكل منفرد، مهما امتلك من دعم خارجي.

إن غياب اليمن عن جدول زيارة ترامب ليس مجرد صدفة دبلوماسية، بل انعكاس عميق لحقيقة إستراتيجية: السعودية لم تعد المُمسك الأول بخيوط الملف اليمني، بل غدت أحد أطرافه المُربكة، تتخبّط وسط تداعيات مشروع كانت هي أول من أطلق شرارته.

واليمن، كما يبدو اليوم، لم يعد مجرد أزمة تحتاج إلى وساطة، بل ساحة مفتوحة في قلب صراع إقليمي ودولي، يدفع ثمنها شعبٌ بأكمله، فيما تتزاحم القوى على اقتسام ما تبقّى من جسد بلدٍ كان يُفترض أن يكون جارًا لا تابعًا، وشقيقًا لا رهينًا.

مقالات

الحوثي.. وحشية بلا هوادة تفتت النسيج اليمني

لم يعد بيننا وبين الحوثي مساحة يمكن البناء عليها. لا رابط نقي يمكن ترميمه، ولا أرضية أخلاقية تصلح لحوار. ما فعله بهذه البلاد تجاوز حدود الخلاف، هوى بها إلى درك من الوحشية والتفكك، مزّق النسيج الاجتماعي، وحوّل الروابط إلى رماد. ارتكب مجازر لم توثقها كل الكاميرات، وقتل الآلاف بدم بارد. مارس انتهاك الكرامات، وسحق الحقوق، وزرع الخوف داخل كل بيت. من السجون خرجت صرخات لا تجد من يصغي، ومن البيوت خرج الناجون بلا ذاكرة، محملين بألم لا يُحتمل. لا يمكن توصيف الحوثي كجماعة مسلحة فقط، هو منظومة متكاملة لصناعة الرعب.

مقالات

فؤاد الحِميري: فبراير الذي لا يموت

عندما تتأمل قصائد وكتابات وأشعار فقيد الوطن وأديب فبراير، الأستاذ الثائر فؤاد الحِميري، تجد أنها جميعًا تصب في ينابيع مبادئ الحرية والكرامة ومقاومة الظلم. هذه المبادئ هي ذاتها الأهداف السامية لثورة 11 فبراير، ثورة الشباب السلمية اليمنية، التي كان الحِميري أحد أبرز شبابها وشاعرها الملهم.

مقالات

للورقة الباذخ بالشجاعة في جبال السلفية

أعتقدُ جازمًا أن طبيب الأسنان قد فخخ ضرسي تمامًا ببقايا تلك الهدايا التي أرسلها القذافي كعطيةٍ نفطيةٍ كريمة، ليجود بالحياة على من تبقّى بيدٍ واحدة أو بقايا أقدام، وهو يحتفل بأن النبض لا يزال فيه.

مقالات

قبائل برط الجوف: سوسيولوجيا التوظيف الإمامي للقبيلة

ليست هذه الورقة بحثًا مكتملًا، بقدر ما هي دعوة مفتوحة للباحثين والمختصين لتسليط الضوء على ظاهرة تاريخية مقلقة، تعود جذورها إلى أكثر من ألف عام، ولا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم. إنها ظاهرة توظيف قبائل معيّنة، وعلى رأسها قبائل "ذو محمد" في منطقة برط بمحافظة الجوف، كمخزون بشري عسكري في خدمة حروب الأئمة الزيدية في اليمن.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.