مقالات
المعجم اليمني.. جسر مطهر الإرياني بين اللهجات اليمنية وجذورها المسندية
حين يُذكر مطهر الإرياني، يخطر في ذهني شعره الغنائي أولاً. شاعر غنائي شغوف بالأرض والتراث والحُب، وقد خصصت الحلقة الأولى من سلسلة مقالاتي عنه في هذا الجانب.
يتبعه ما عرفناه عن مطهر كمؤرخ فذ، سكن في وعيه تاريخ اليمن القديم، وذهب بعيداً في قراءة نقوشه المسندية وشرحها ودراستها والتعليق عليها، منقباً فيها عن ما طُمر بسبب الإهمال والطمس المتعمد، وباحثا عن ملامح تاريخ يمني جذوره تمتد إلى ما قبل التاريخ.
وفي هذا الجانب كتبت مقالين، ولا زال لديّ ما أكتبه في قادم الأيام. غير أنّ البُعد اللغوي في مشروعه يظل واحداً من أعمق مساراته وأكثرها رسوخاً؛ فهو البُعد الثالث الذي اجتذب اهتمامه لدراسة اللغة اليمنية القديمة والصلات التي تربطها باللغة المستخدمة في لهجات الحياة اليومية التي تعود اشتقاقاتها وجذور مفرداتها الى اللغة المسندية. جهد حاول من خلاله لفت الانتباه للغة اليمنية القديمة ومكانتها الغائبة عن وعي اليمنيين، والمهملة في أضابير التاريخ الحضاري القديم وما اكتشف من نقوشه المسندية والزبورية.
-ألمانيا وفكرة تأليف معجم يربط اللهجات اليمنية بجذورها المسندية
في صيف 1970، جلس المستشرق الألماني "والتر مولر" مع طالب يمني في جامعة "توبنغن"، يحاولان معاً قراءة نقش مسندي طويل مكوّن من 14 سطراً، نُشر للتو حينها وأعطي الرمز "ZM1". كان نقشاً سليماً لكن صعباً للغاية. توقف المستشرق الشهير في السطر الخامس عند كلمة «ألهج»، تركها الناشر بلا ترجمة، إذ لم يجد لها تفسيراً. عندها بادر الطالب اليمني قائلاً: «ألهج» نستعملها في لهجتنا وهي صيغة الجمع، ومفردها لَهْج ومعناها هو «نافِدَةٌ عُليا».
كان ذلك الطالب هو مطهر بن علي الإرياني، المبتعث حينها لدراسة النقوش المسندية. في تلك اللحظة انبثقت فكرة تأليف «المعجم اليمني»، التي ستستغرق ستة وعشرين عاماً قبل أن ترى النور في 1996، وبطبعة ثانية منقّحة وموسّعة عام 2012.
أشار "والتر مولر" إلى هذه الواقعة في بحث له نُشر عام 2014 بعنوان «بقايا معجمية سبئية في اللغة العربية ولهجات اليمن» وترجمه الباحث الشاب والمترجم النشط محمد عطبوش الذي يثري المكتبة اليمنية بأبحاثه وترجماته.
ولم يفتْه تأكيد معنى مفردة "ألهج" التي وُلدت منها فكرة المعجم اليمني، إذ أشار إلى أنها وردت، بوصفها لفظاً يمنياً، في الجزء الثامن من كتاب "الإكليل"، حيث كتب الهَمْداني وَصْفَ قصر غمْدان في صنعاء «وكان في أعلاه غرفة لها «لَهُج وهي الكوى».
يحتوي النقش ZM1 إلى جانب «ألهج» عدداً من الألفاظ اليمانية: اسم الملك صاحب هذا النص هو «شُرَحْبيل»، ووُكِّدَ ضَبُطُ هذا الاسم من واقع أن كثيراً من عرب الجنوب قبل الإسلام وبعده حملوا اسم شرحبيل، ومعناه «المحفوظ بالإله»، كاشفاً عن صيغة الفعل السبئي المبني للمجهول «شرح» ومعناه: حفظ، نجّى.
في مقدمة «المعجم اليمني» ذكر الإرياني تلك اللحظة الخالقة لفكرة تأليفه هذا المعجم الرائد، قائلاً: «ظلت فكرة هذا الكتاب تعيش في ذهني أعوامًا طويلة، وذلك منذ أن بدأ اهتمامي بالنقوش المُسندية وبتاريخ اليمن القديم، هذا الاهتمام الذي بدأ قبل أكثر من ثلاثين عاما، وأثناء دراستي لبعض النقوش المسندية مع المستشرق الألماني الكبير، البروفيسور والتر موللر».
المفردات اليمنية المستخدمة في الحياة اليومية كانت عوناً لنا في فهم بعض المفردات المسندية. التفت إليّ البروفيسور مولر وقال بإعجاب: ما أحوج الدارسين إلى عمل يضم ما في اللهجات اليمنية من مفردات خاصة لا نجدها في القواميس العربية! فأجبته أن هذا ما يدور في ذهني، ولكن على أساس أعمق من الشرح والمقارنة، مع بعض الاستطرادات الثقافية والتراثية».
-بدونة العربية الفصحى، ولغة الحضارة اليمنية
عرفت اللغة اليمنية القديمة ب"العربية الجنوبية" في كتابات اللغويين الأجانب. ويطلق عليها الوسط الأكاديمي والشعبي اليمني مصطلح "لغة المسند".
تطور اللغات يرتبط تاريخياً بصعود وهبوط الحضارات. لحظة الإسلام في شمال الجزيرة العربية، وميلاد الدولة العربية الإسلامية فيها، أدت إلى اعتماد لهجة القبائل النزارية الست، وقاموس مفرداتها، كأساس للغة العربية الفصحى.
مع ذلك، اللغة العربية التي نتحدث بها اليوم كانت نتاج تطوّر حضاري واسع استوعب لهجات ولغات، ودمجت فيه جماعات وشعوب في أصقاع مختلفة من جغرافيا الحضارة العربية الإسلامية الممتدة من الجزيرة العربية إلى الأندلس، مرورا ببلاد ما بين النّهرين ومصر والشام والمغرب العربي.
اللغة اليمنية القديمة كانت جذراً فاعلاً في تشكّل هذه اللغة، وحضرت اليمن كلغة وهوية حضارية في هذا الامتداد، واستطاعت فرض لغتها ولهجتها وقيمها المتجاوزة لبداوة الصحراء، سواءٌ داخل اللغة الفصحى أو الحواضر التي تموضعت فيها الدولة العربية الإسلامية في الشام والعراق، مصر والمغرب العربي، الأندلس وكل مكان وصلت إليه رايات المسلمين.
مفردات اللغة اليمنية القديمة المشتركة مع القواميس العربية ليست موضع اهتمام دراسة الإرياني وكتابه (المعجم اليمني).
الكَثْرَة الكاثرة من المفردات اللغوية الدائرة على السنتنا -بحسب الإرياني- هي أساساً من لغتنا العربية القاموسية المشتركة، وهذا الشطر الأعظم لا شأن للمعجم اليمني به، فألفاظه معلومة ومدوّنة في المراجع، وواردة في التراث، ومتداولة في اللهجات العربية على هذا النحو أو ذاك.
الاهتمام الأساسي في متن "المعجم اليمني" يهتم أساساً ب«المفردات اللغوية في لهجاتنا التي لم توردها القواميس ولا احتفل بها اللغويون إما قصوراً عن الوصول إليها، أو تقصيراً عن فهمها والإقرار لها بالفصاحة والعراقة وذلك طبقاً لنظريتهم في المنشأ البدوي للغة العربية».
أدرك الإرياني مبكراً أن كثيراً مما ينطق به اليمني في حياته اليومية هو في الأصل من لغة النقوش، وأن هذا الاستمرار لا يمكن تفسيره بالصُّدفة. لكنه لاحظ أيضًا أن القواميس العربية لم تحتفِ بهذه المفردات، بل تجاهلتها. لماذا؟ لأنه حين بدأ اللغويون العرب التدوين، تبنّوا ما سمّاه الإرياني «البَدْوَنة»: الاعتقاد بأن المنشأ البدوي هو الأصل، وأن الفصاحة لا تُؤخذ إلا من القبائل النزارية في الصحراء. بذلك وضعوا حظرًا على الحواضر، وعلى كل ما له صِلة بحضارات أخرى، فتضرّرت اليمن أكثر من غيرها، مع أنها كانت مهد العرب قبل الإسلام.
شقّ المؤرخ واللغوي والشاعر الفذ لنفسه طريقاً متفرّداً في دراسة اللغة اليمنية القديمة ونقوشها المسندية، مؤمناً أن اليمن لم يفقد لغته الأم رغم اعتماد المنشأ البدوي للعربية الشمالية لغةً فصحى رسمية عند جامعي المادة اللغوية المتأخرين. كان «المعجم اليمني»، الذي ألّفه، أبرز تجلّيات مشروعه؛ إذ جمع فيه مفردات العربية اليمنية القديمة التي بقيت حيّة في اللهجات الريفية والتراث المكتوب والشفهي، والتي لم تتضمنها قواميس اللغة العربية التي اعتمدت عربية القبائل النزارية الست.
هذا المعجم للغة اليمنية المسندية المستخدمة حتى اليوم ضمن اللغة السائدة، خطوة فريدة في سبيل توثيق «اللغة اليمنية العربية» باعتبارها امتداداً حيًا للغة العرب الجنوبيين التي سبقت الفصحى الرسمية. انطلق الإرياني من معرفته العميقة بالمفردات المستخدمة في الحياة اليومية، خاصة في المناطق الوسطى من اليمن، حيث بقيت كثير من الألفاظ والأبنية النحوية والتراكيب والدلالات حيَّة في الذاكرة الشعبية وفي الشعر الشفهي والمواريث القبلية. فجاء معجمه كأرشيف لغوي ثقافي، لا يجمع الكلمات وحسب، بل يربطها بجذورها التاريخية في النقوش اليمنية القديمة، ويكشف استمرار استعمالها رغم تعاقب القرون، وكأنها بقيت خارج سلطة التعريب الرسمي الذي وحّد العربية حول لهجة البداوة.
أسلوب الإرياني لا يكتفي بذكر الكلمة، بل يتوسّع في المقارنات والشروح، ويربط الألفاظ بمصادرها النقشية، مستطرداً إلى تفسيراتٍ تراثية وتاريخية توضّح كيف بقيت هذه المفردات نابضة وسط التحولات اللغوية.
لم يتناول المؤلف هذه المفردات بوصفها لهجة عامية، بل بوصفها امتداد للغة اليمنية القديمة. لغة أثبتت بمرور الأزمنة أنها عصيَّة على المحو، وأنها ما زالت محتفظة بجذورها المفرداتية والصوتية والتركيبية، وتُعدّ شاهدة على الاستمرار الحضاري لليمن من عصر النقوش إلى لسان الناس اليوم.
هذه الإشكالية لم تكن حبيسة القواميس فقط، بل برزت في الأشكال الشعرية أيضاً؛ فالشعر الحُميني، الذي ازدهر أيام الدولة الرسولية، حطّم قواعد القافية الواحدة للشعر الفصيح، وأهمل علامات الإعراب مفضّلًا السكون، وأدخل كلمات من اللغة اليمنية الحيّة، ليثبت أن لهذه اللغة قدرة على التجدد والتعبير الفني خارج قوالب الفصحى الرسمية التي تجاهلتها.
صدرت في السنوات القليلة الماضية كتب عديدة لتوثيق اللهجات اليمنية؛ أهم هذه الإصدارات كتاب الباحث الصحفي الأستاذ أحمد شرف الحكيمي، الذي صدر في ثلاثة مجلدات، 1553 صفحة من القطع الكبير، بعنوان "لهجة المعافر وتراثها".
ذكر مطهر الإرياني في مقدمة كتابه "المعجم اليمني" أن الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني اهتم بفكرة توثيق اللهجات اليمنية، وقدّم له عدة باحثين مهتمين بالموضوع بينهم أحمد شرف، الذي وافاه بملف يحتوي على جهده في توثيق مفردات لهجة المعافر. لكنه حفّزه على إكمال جهده في كتاب منفصل، إذ كان يرى أن كتابه "المعجم اليمني" هو خطوة في هذا المجال الذي ينتظر جهود اللغويين والباحثين اليمنيين، لنقده وتطويره والبناء عليه.
هناك ما يقرب من عشرة مؤلفات في السياق نفسه، صدرت بعد الطبعة الثانية من المعجم 2012، حسب علمي كقارئ متابع لهذا النوع من المؤلفات، لكن فكرة مطهر الإرياني بقيت متجاوزة لها. هذه المؤلفات أو المعاجم تهتم ب"اللهجات العامية" دون أن تضع فكرتها الأساسية في اللغة اليمنية القديمة واستمراريتها واشتقاقاتها في لهجات المناطق اليمنية المستخدمة إلى اليوم، وعلاقتها بالعربية الفصحى.
كما أنها لا تهتم بالمقارنة بين ما ورد منها في قواميس العربية الفصحى، وما تم تجاهله من مفرداتها.
الحديث عن "عامية" في اليمن، يقول ضمناً أن الأساس البدوي لعربية الشمال في اللغة العربية الفصحى هو الأساس.
بعض هذه الدراسات أفردت مساحة للمقارنة بالنقوش المسندية، والعربية الفصحى، لكن ذلك لم يكن الفكرة الرئيسية لتلك المؤلفات.
«المعجم اليمني» للإرياني هو حجر الزاوية الذي يمكن البناء عليه وتطويره؛ لأنه لا يجمع ألفاظاً عامية. اهتمامه بتصرف إلى قاموس لغوي يمني تعود جذور مفرداته إلى اللغة اليمنية القديمة، ويكشف عن بنية لغوية كاملة ظلت حيّة رغم تحولات العربية الفصحى في شمال الجزيرة.
-أهمية "المعجم اليمني" مقارنة بالدراسات اللغوية الحديثة
ما يلفت الانتباه هو أن عمل الإرياني هذا جاء سابقاً أو موازياً في بعض جوانبه لكثير من الدراسات اللسانية الحديثة التي اشتغل عليها باحثون أجانب درسوا الأصل اليمني للعربية الجنوبية وعلاقتها وتأثيراتها على عربية الأندلس ولهجات المغرب العربي والشام والعراق ومصر. هؤلاء الباحثون اللغويون اشتغلوا بمنهجيات لسانية مقارنة صارمة، وبيّنوا بالتحليل الصوتي والصّرفي كيف انتقلت عناصر من العربية الجنوبية إلى تلك الأصقاع التي استقر فيها هجرات يمنية قبل الإسلام وبعده.
هناك دراسات وأبحاث حديثة كثيرة، من أبرزها دراسة فريدريكو كورينتي، تؤكد أن اليمنيين حين انتقلوا في موجات الهجرة الكبرى إلى الشام ومصر والعراق والمغرب العربي والأندلس، حملوا معهم حضارتهم ولغتهم وأدبهم وثقافتهم. وقد أثّرت هذه اللغة اليمنية بعمق في عربية شمال الجزيرة التي نُصبت كمركز لغوي مهيمن، ولم تكتفِ بإغناء هذه الفصحى الرسمية بمفرداتها وتراكيبها، بل احتفظت بسماتها الصوتية ولهجاتها الخاصة وقاموسها الأصيل، ليس في اليمن فحسب، بل في غرب المتوسط كله حيث حلّت الهجرات اليمنية قبل الإسلام وبعده.
دراسات كورينتي "عربية الأندلس ولهجات المغرب العربي" تتضمن القول إن هذه اللهجات لم تُشتق بالكامل من عربية شمال الجزيرة (قريش) وحدها، بل احتفظت بعناصر لهجية وصوتية وصرفية من لغة اليمن "العربية الجنوبية".
وهذا يعزز أطروحة الإرياني أن «العربية اليمنية» في جزء كبير منها يستخدم في لهجات الحياة اليومية اليمنية تمثل استمراراً حياً للغة اليمنية.
أغلب الكلمات المستخدمة في الحياة اليومية نعتقدها "عامية"، بينما تثبت الدراسات اللغوية أنها مشتقة من جذورها في العربية الجنوبية القديمة "المسندية والسبئية وما قبلها".
اعتمد الباحثون الإسبان والفرنسيون والألمان في العقود الأخيرة على أدوات اللسانيات التاريخية المقارنة لرسم شبكة التأثيرات، بينما قدّم الإرياني مشروعه اللغوي من داخل اللغة الحية ذاتها، من واقع اللهجات الشعبية إلى صرح المعجم والدراسة النقشية، ليصنع جسراً متيناً بين الذاكرة الشفهية وجذورها الممتدة في النقوش المسندية.
-من "ألهج" وصولاً إلى "باب المندب"!
بدأت مقالتي هذه بمفردة "ألهج" وهي لفظة يمنية فصحى تجاهلتها العربية الفصحى ذات المنشأ البدوي.
وسأختمها بمفردة يمنية استوعبتها العربية الفصحى، ولكن بمعنى مختلف "المندب - الندب".
من الدراسات اللافتة التي أنجزها الإرياني في هذا السياق بحثه حول أصل تسمية «باب المندب»، الذي نشره في مجلة الإكليل وأعاد تثبيته في كتابه المعجم اليمني وفي الموسوعة اليمنية. كان شائعاً في مراجع اللغة العربية المعاصرة أن اسم «المندب» مُشتقّ من «النّدب» بمعنى استدعاء الناس أو استصراخهم، لكن الإرياني رفض هذا الاشتقاق بوصفه قراءة سطحية لا تراعي أصل التسمية في النقوش الحميرية.
أعاد الإرياني الكلمة إلى جذرها اليمني العربي القديم، مثبتاً أنها وردت في نصوص المسند، حيث يحمل «الندب» معنى العبور أو الاجتياز وقطع المسار من جانب إلى آخر. ويبيّن الإرياني أن باب المندب سُمّي كذلك لارتباطه بظاهرة ديموغرافية يمنية أصيلة، إذ كان معبراً بحرياً رئيسياً لليمنيين منذ أقدم العصور لعبور البحر الأحمر والوصول إلى سواحل الحبشة، مما جعل الحضارة اليمنية أول حضارة في جنوب الجزيرة تخترق بلدان ما يُعرف اليوم بـ«إفريقية جنوب الصحراء»، وتنقل إليها الزراعة واللغة والكتابة والعمران.
يقول الإرياني موضحاً:"إن مخالفة هذا الرأي لما سبقه من الآراء ليست اعتباطية ولا مرتجلة، بل هي التي قصدتني وجاءت إليّ شيئاً فشيئاً بحكم اهتمامي بالدراسات اليمنية القديمة وعملي في مجال الدراسات اللغوية… وقد تشكّل هذا الرأي لدي وتطور منذ عقود من الزمن، وسبق أن عبّرت عنه عرضا في سبعينات القرن الماضي من خلال بعض الإصدارات، ثم كررته في الموسوعة اليمنية، وكتابي المعجم اليمني تحت مادة 'ن د ب'… وبحمد الله، فإن هذا الرأي بدأ يشق طريقه حتى اعتمدته 'الموسوعة العربية' في تعريفها لاسم باب المندب».
تكشف هذه الدراسة الموجزة عن «باب المندب» ملامح منهج الإرياني كله: شغف بالنصوص المسندية، وحرص على رد الأسماء إلى جذورها الفعلية في اللغة اليمنية القديمة، وتفكيك حازم للمفاهيم الشائعة التي تتجاهل لغة اليمن القديمة ولهجاتها الحية.
-ثم ماذا بعد؟
من يكتب في هكذا عنوان يدخل في حقل ثري وشاسع ويغري بالاسترسال، لكنني أقف هنا، في حدود المقالة البحثية، أو قريباً منها.
لأختم بفكرة، ربما وردت أكثر من مرة في السطور السابقة، ومع ذلك أكررها هنا: لم يكن "المعجم اليمني في اللغة والتراث" تجميع للهجات.
هذا العمل البحثي الكبير كان خطوة رائدة في توجه معرفي تاريخي يسعى لإعادة الاعتبار للغة أُقصيت عمداً. جمع الإرياني في "المعجم اليمني" كلمات ظلت حية في حياة اليمنيين اليومية في الأرياف والمدن، وأعادها إلى جذورها المسندية،
المعجم بهذا المعنى وثيقة هوية، تكشف أن اليمن لم يفقد لغته الأم، وأن العربية الفصحى، بقواميسها ولهجاتها المقصية من الأساس البدوي، لم تتكون من فراغ، ولكنها لغة نمت وتطوّرت من تفاعل بين لغات ولهجات عديدة، في متنها شمال الجزيرة وجنوبها، بداوة الصحراء وحضارة اليمن القديمة.