روح الاجتماع.. حين ينطق غوستاف لوبون بلسان الحضارات

حين كتب غوستاف لوبون كتابه الشهير روح الاجتماع في أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن يقصد مجرد تسجيل ملاحظات عن الشعوب، بل كان يسعى لتأسيس رؤية جديدة لفهم التاريخ. التاريخ في نظره ليس تراكمًا لأحداث سياسية أو عسكرية، بل هو صدى لروح خفية تحرك الشعوب، تصوغ عقائدها، وتحدد مصائرها.

روح الشعوب.. البصمة التي لا تزول

لوبون ينطلق من فكرة أن كل شعب يمتلك مزاجًا نفسيًا وجماعيًا يميّزه عن غيره. هذه الروح تتجلى في القيم والعادات والدين والأخلاق، وهي التي تحدد موقع الأمة في مسار الحضارات.

• أمة ذات روح قوية قادرة على الابتكار والصمود.

• وأمة فقدت روحها تصبح قابلة للذوبان والتقليد، مهما بلغت قوتها المادية.

هنا يقترب لوبون من فكرة أن الهوية الجمعية ليست مجرد شعار سياسي، بل قانون طبيعي من قوانين البقاء.

الدين والعقائد الكبرى.. سرّ التماسك

يرى لوبون أن الدين أو العقيدة المشتركة هو الإطار الجامع الذي يمنح الحضارة معناها. ليست المسألة في الطقوس أو العبادات فحسب، بل في كون الدين قوة نفسية وأخلاقية تضبط المجتمع وتوحده.

• كل حضارة عظيمة في نظره قامت على عقيدة: كالمسيحية في أوروبا، أو الإسلام في الحضارة العربية الإسلامية.

• وحين تضعف العقيدة، يدخل المجتمع في حالة فراغ روحي تفتح الباب أمام الانهيار.

الاقتصاد والترف.. وجهان متناقضان

يؤكد لوبون أن الاقتصاد والعمل والإنتاج أساس ازدهار العمران. لكن المفارقة أن الترف والرخاء الناتج عن هذا الازدهار قد يكون بذرة الفساد.

• في البدايات: العمل الجاد والصلابة.

• في الأوج: الازدهار الاقتصادي والفكري.

• في الانحدار: سيطرة النزعة الاستهلاكية والترف، وضياع روح التضحية.

هذه الفكرة نجدها في تاريخ الأندلس مثلًا: قمة العلم والفنون، ثم الانغماس في الترف، فالسقوط.

قوانين الحضارات.. دورة حتمية

يشبّه لوبون دورة الحضارة بحياة الإنسان:

1. النشأة: حيث تظهر العصبية الجامعة وتدفع المجتمع للقتال والبناء.

2. القوة: توسع وسيطرة وازدهار.

3. الترف: مرحلة الانغماس في الملذات.

4. السقوط: التفكك والانهيار.

ويصرّ لوبون أن هذه الدورة ليست أسطورة، بل قانون اجتماعي متكرر في كل الأمم.

الفرد والجماعة.. سيكولوجية الحشد

من الأفكار البارزة أن الفرد حين ينخرط في جماعة يفقد كثيرًا من وعيه المستقل. الجماعة تمتلك عقلًا خاصًا بها، يدفع الأفراد لأفعال لم يكونوا ليفعلوها وحدهم.

• هنا يضع لوبون بذور ما سيطوره لاحقًا في كتابه الشهير سيكولوجية الجماهير.

القوانين الاجتماعية.. علم جديد

لوبون يعتبر أن المجتمعات تخضع لقوانين علمية مثل قوانين الطبيعة. من يجهلها لا يمكنه فهم التاريخ أو توجيه الحاضر.

• لذلك فإن دراسة النفسية الجمعية للشعوب، عنده، أهم من دراسة معارك الملوك.

• وهنا تتجلى ريادته كواحد من أوائل المؤسسين لما نسميه اليوم علم الاجتماع النفسي.

دروس الحاضر

خلاصة الكتاب أن الأمم لا تموت بالفقر، بل حين تفقد أخلاقها وروحها الجمعية. من يقلّد غيره يفقد هويته، ومن ينغمس في الترف يضعف، ومن يفرّط في عقيدته ينهار.