تقارير
أمهات الأطفال ذوي الإعاقة بين ثقل الرعاية وغياب الدعم الأسري
منذ اللحظة التي اكتشفت فيها أن ابنها يُعاني من إعاقة ذهنية وهو في الثالثة من عمره، تغيّرت حياة "أم عمر" بالكامل.
وجدت نفسها تحمل عبء الرعاية وحدها، بعد أن تنصّل الأب من المسؤولية وتركها تواجه رحلة طويلة من العلاج والتعب والدموع.
بين سهر الليالي على خدمة طفلها، وشعور العزلة والخذلان من أقرب الناس، أدركت "أم عمر" أن معاناة الأم مع طفلها المُعاق لا تقتصر على التحديات الصحية؛ بل تتضاعف بفعل غياب الدعم الأسري والمجتمعي.
تقول "أم عمر" في حديثها لقناة "بلقيس": "منذ اكتشفتُ إعاقته وحتى اليوم، وأنا شايلة الحمل لوحدي. 12 عامًا لم أفارقه، ولم أقصّر في واجباتي نحوه كأم".
تضيف: "تعبت جسديًّا من السهر والعناية، وتعبت نفسيًّا من الهموم والخذلان".
وتتابع مستعرضة خذلان زوجها: "لم أجد من يخفف عني. أبوه تزوج بأخرى، ولم يشاركني لا وجعًا ولا مسؤولية، وتركني أواجه مشوارًا طويلًا كله علاج وتعب ودموع".
وتقول، وهي تكابد الوجع: "أنا عشت إحساس الوحدة والعزلة، وأحيانًا أشعر أن الحمل أكبر من طاقتي؛ لكن حب ابني وإيماني بالله هو ما جعلني أصمد"، حسب تعبيرها.
تُبرز "أم عمر" معاناة أمهات الأطفال ذوي الإعاقة بالقول: "الحقيقة أن الأم مع طفلها المعاق تعيش معاناة مضاعفة، ليس تعب الرعاية وحده، وإنما قلّة الدعم من أقرب الناس".
وتؤكد: "لو كان الأب مُساندًا فعلاً، لخفّ الحمل، وكان الطريق أهون؛ لكن لما ينسحب، كل شيء يُضاعف على الأم...".
- غياب الدعم الأسري
لا تختلف قصة "أم لؤي" عن سابقتها "أم عمر"، فهي أيضًا تحمل عبء رعاية طفلها البالغ من العمر 13 عامًا والمصاب بالتوحّد، وتواجه تحديات إضافية بسبب التشخيص الخاطئ، والعلاجات غير الفعّالة، وقلة الدعم الأسري والمجتمعي.
منذ أن تم تشخيص ابنها بمرض التوحّد، وجدت نفسها تواجه تحديات تفوق كل تصور.
تقول "أم لؤي": "أول عقبة كانت التشخيص الطبي الخاطئ، الذي أضاع علينا سنوات ثمينة من العلاج الصحيح".
ومع مرور الوقت، لاحظت أن بعض العلاجات لم تحقق التحسن المرجو، مما أضاف شعورًا بالإحباط والإرهاق؛ لكن التحدي الأكبر، كما تصفه، كان "غياب الدعم الأسري والمجتمعي".
وتقول في حديث لقناة "بلقيس": "حين لا يدرك الأهل خطورة الوضع، أو لا يتعاونون معي في رعاية طفلي، تصل الأمور إلى ممارسة العنف أو الضغط الجسدي والمعنوي أحيانًا...".
وتتابع: "ليس هذا فحسب، بل المجتمع بأكمله يجهل طبيعة المشكلة، مما يزيد من شعورنا بالعزلة والوحدة، ويجعل رحلتنا اليومية مليئة بالصعوبات والتحديات المستمرة".
- إعاقات متعددة
تشمل الإعاقات مجموعة واسعة ومتنوعة من الحالات، منها ما هو مزدوج ويجمع بين أكثر من نوع من الإعاقة، وفقًا للصحفي المختص بقضايا الأشخاص ذوي الإعاقة، إبراهيم المنيفي.
يوضح المنيفي لقناة "بلقيس" أن الإعاقات العقلية، مثل الضمور الدماغي، حيث تكون المشكلة في الدماغ نفسه، والإعاقات الذهنية مثل متلازمة داون والتوحد، والحركية التي تؤثر على الحركة البدنية، وكذلك السمعية والبصرية التي تصيب حاستي السمع والبصر.
وأشار إلى وجود حالات من الإعاقات الذهنية غير المحددة السبب، حيث يكون تخطيط الدماغ سليمًا، لكن السبب الدقيق غير معروف، مما يزيد من تحديات التشخيص والرعاية، مؤكدًا أن تبعات هذه الإعاقات تتحملها الأسرة، وفي مقدمتها الأمهات.
- إحصائيات غائبة
يظل واقع الإعاقة في اليمن مأساويًا، إذ لا توجد إحصاءات دقيقة يمكن الاعتماد عليها، بحسب رئيس الاتحاد الوطني لجمعيات المعاقين اليمنيين، عبدالله بنيان.
وتوافقه الرأي "الرميصة يعقوب" من الشبكة الوطنية لمناصرة حقوق ذوي الهمم، التي تؤكد "غياب أي بيانات أو إحصائيات دقيقة في اليمن حول أعداد المعاقين"، مشيرة إلى أن "الاحصائيات الموجودة معتمدة غالبًا على تقارير الأمم المتحدة".
وتقول في حديثها لقناة "بلقيس" إن تقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2023 تشير إلى وجود ما يقرب من 4.9 ملايين شخص من ذوي الإعاقة في اليمن.
من جانبه، أوضح بنيان أن صندوق المعاقين يسجل نحو 200 ألف معاق من مختلف الإعاقات في اليمن، بينما أظهرت دراسة عيّنية أُجريت العام الماضي في محافظة المحويت أن نسبة الإعاقة بلغت حوالي 13% من السكان.
وتابع: تشير تقديرات أخرى إلى أن النسبة قد تصل إلى 15% من السكان، فيما تفيد منظمة الصحة العالمية بأن واحدًا من كل عشرة أشخاص في العالم يعاني من شكل من أشكال الإعاقة.
وأضاف أن الوضع في اليمن يزداد مأساوية بسبب الحرب وما خلفته من إصابات وحوادث، إلى جانب انهيار المنظومة الصحية وغياب الرعاية.
وأشار إلى أن بعض الممارسات الخاطئة، مثل اللجوء إلى الشعوذة، تزيد من حدة المعاناة.
ولفت إلى أن معظم الأشخاص ذوي الإعاقة يعيشون في المناطق الريفية النائية، حيث لا تصلهم أبسط مقومات الدعم أو الرعاية، ما يجعل حياتهم وعائلاتهم، وفي مقدمتها الأمهات، عرضة لعزلة نفسية واجتماعية وحرمان متعدد الأبعاد.
- تحديات متشابكة
في هذا السياق، تقول الدكتورة أسماء البريهي، ماجستير في طب الأطفال، إن الأطفال ذوي الإعاقة يواجهون سلسلة من التحديات المتشابكة، تبدأ بالمشكلات الطبية وتأخر التشخيص والتدخل المبكر، مرورًا بالمضاعفات الصحية المصاحبة.
وتؤكد في تصريح خاص لقناة "بلقيس"، أن الجانب التأهيلي يمثل عقبة كبيرة، في ظل قلة المراكز المتخصصة وبُعدها عن مناطق سكن الأسر، فضلاً عن نقص الكوادر المؤهلة، وصعوبة الحصول على الوسائل التعليمية والتأهيلية المناسبة.
وأشارت إلى أن التحديات الاجتماعية لا تقل خطورة، إذ يتعرض الطفل المعاق للتنمّر والإهمال داخل بعض الأسر، مع ضعف الاهتمام بتعزيز ثقته بنفسه، لافتة إلى أن الظروف المادية للأسرة تلعب دورًا محوريًا في مستوى الرعاية التي يتلقاها.
وأكّدت أن هذه المشكلات جميعها تفرض عبئًا نفسيًا وجسديًا وماديًا كبيرًا على الأمهات، اللواتي يتحمّلن المسؤولية المباشرة في الرعاية اليومية، ويتعرضن لضغوط متواصلة تتعلق بتأمين العلاج، وتنظيم الوقت، ومرافقة الطفل في المراجعات، إلى جانب حاجتهن المُلِحّة إلى الدعم النفسي والاجتماعي لمواصلة هذه المهمة الشاقة.
- عبء الرعاية اليومية
من جانبه، أوضح الدكتور زكريا الصلوي، أخصائي علاج طبيعي، أن الأمهات يتحملن العبء الأكبر في رعاية الأطفال ذوي الإعاقة، سواء من الناحية الجسدية بسبب الحمل المستمر والتنقل وتغيير الوضعيات، أو النفسية بسبب القلق الدائم على مستقبل أطفالهن.
وأشار في تصريح لقناة "بلقيس" إلى أن صعوبة الوصول إلى مراكز العلاج، وارتفاع تكاليف الجلسات والأجهزة المساعدة كالكراسي المتحركة والجبائر، تمثل تحديًا إضافيًا يُرهق الأسر، فضلاً عن قلة الكوادر المتخصصة وطول فترات الانتظار.
ولفت إلى أن النظرة السلبية من بعض أفراد المجتمع تزيد من عزلة الأمهات ومعاناتهن، إلى جانب حرمانهن من الوقت الشخصي، وتأثر علاقاتهن الأسرية، خاصة مع انشغالهن الكامل برعاية الطفل ومتابعة تعليمه وتدريبه في المنزل، لغياب البرامج المدرسية المناسبة.
وأكد أن القلق من المستقبل، ولا سيما ما قد يواجهه الطفل في غياب الأم، يُعدّ من أكبر الضغوط النفسية التي ترافق الأمهات.
وشدّد على ضرورة توفير برامج دعم نفسي واجتماعي لهن، إلى جانب إشراكهن في دورات تدريبية لتعلّم طرق التعامل مع أطفالهن في المنزل، والاهتمام بصحتهن الجسدية من خلال تمارين بسيطة لتخفيف آلام الظهر والمفاصل.
هكذا، تعيش أمهات الأطفال ذوي الإعاقة معاناة يومية مضاعفة، تحاصرهن الإعاقة من جهة، والحرمان من جهة أخرى.
يكافحن كل يوم لضمان حياة كريمة لأطفالهن، متسلّحات بالعزيمة والصبر، أملًا أن يجدن من يُخفف عنهن الأعباء، ويمنحهن شعورًا بالأمان والقوة.