مقالات

وصايا الكاهن الحوثي للسوريين

18/07/2025, 19:20:30

في خطابه الأخير، ظهر عبد الملك الحوثي متقمصًا دور الحكيم الإقليمي، ناصحًا الحكومة السورية التي يقودها أحمد الشرع بضرورة التعامل بطريقة مختلفة، وبمزيد من المرونة والوعي، مع الداخل السوري، لا سيما مع المسلحين الدروز والأقلية العلوية، حتى لا تمنح إسرائيل ذريعةً للتدخل.

كأنه يقول لدمشق: تحلَّي بالرحمة والمرونة التي تعاملتُ بها مع الشيخ المُسن صالح حنتوس وزوجته في اليمن!

في نظر السلالة وتنظيمها العسكري، لم يكن الشيخ حنتوس فردًا فحسب، كان اليمن كله في صورة شيخ يمني لم ينكسر.

رأته باعتباره تمثيلًا مكثفًا لليمن الذي لم يُروَّض، وللشعب الذي ما زالت فيه بقية كرامة. أُعدم الشيخ بدم سلالي بارد، لمجرّد أنه أصرّ على تدريس القرآن كما عرفه، لا كما أرادته "الملازم" الحوثية. 

رجل أعزل، اختار ما يعتبره حقًّا فطريًّا في التعليم، فقوبل بحملة عسكرية أجهزت عليه وعلى أسرته، لتبعث الجماعة برسالة مفادها: لا حق خارج إرادتنا.

اغتالوه بتلك الطريقة الوحشية، لا لأنه يشكّل خطرًا ماديًّا، بل لأنه، في نظرهم، اليمن ذاته، واليمن، كما تعرفه السلالة، هو الخطر الأكبر.

 تتجلّى السلالة المعادية للشعب في أوضح صورها: الخطر لا يأتي من الخارج، إنما من الداخل، من الشعب الذي لا يمكن التحكم فيه. من يمن لا يركع للإمامة.

الكاهن عبد الملك الحوثي، الذي يطالب سوريا بـ"المرونة" في تعاملها مع جماعات مسلحة درزية لا تخفي صلتها بالكيان الإسرائيلي، لم يرَ في الشيخ حنتوس وعائلته سوى "تهديد أمني وغطاء للعدوان الإسرائيلي"، وفي كرامته خطرًا على سلطة السلالة.

وجّه نصيحته للسوريين من أنقاض البلد التي دمّرها. الداخل هو عدو السلالة. يتحرّك زعيمها بوصفه متحدّثًا باسم "حقٍّ إلهيٍّ" مُتخيَّل، وبدافع العرق والاصطفاء السلالي، ويرى في الأكثرية اليمنية، أبناء القبائل والطبقات الوسطى والمزارعين وحتى الصامتين، مجرّد أدوات قابلة للتطويع أو الإبادة. لم تكن حرب العصابة الحوثية ضد الخارج، كانت ضد الجمهورية اليمنية ذاتها.

في فكر السلالة الفاشية، لا تعني "الأمة" الشعب اليمني الكبير والمتنوع، إنما السلالة الهاشمية النقية. الأكثرية اليمنية ليست سوى مجاميع من "المنافقين والدواعش والعملاء والكفار والتكفيريين".

 لا يتعامل الحوثة مع اليمنيين كشعب له حقوق ومطالب وكرامة، بقدر ما يعتبرهم أعداء يجب إذلالهم، وتطهيرهم من هويتهم، وإعادة تشكيلهم وفق "الهوية الإيمانية" التي يبتكرها تبعًا لحاجاته السلالية، وأوهامه الطائفية، وعقيدته الإجرامية.

اعتماد الحوثي للعنف والإبادة ضد الداخل لم يكن نتيجة للحرب، إنما ركيزة في مشروع السلالة المعادية. لا يكتفي باستخدام العنف للانتصار على اليمنيين، بل حوّله إلى وسيلة تربية وإعادة تشكيل قسري للمجتمع.

الحرب الحوثية على الداخل قاعدة أساسية في فكر الجماعة وليست استثناء. الاختطاف، والإخفاء، والسجون السرية، والترهيب، والتعذيب، والتصفيات، والحصار، وإهانة القبائل، وإذلال المشايخ، وتدمير التعليم، والحرب على الجغرافيا اليمنية والهوية والتأريخ، وإبادة كل ما يتصل بالذاكرة الجمهورية، وإعادة إنتاج الإمامة، وتصفية كل من لا ينحني. كل ذلك جزء من جهاز السيطرة الحوثية التي ترى في الوحشية فضيلة ثورية.

يُعلن الحوثي عداءه للجمهورية ضمنًا وعلنًا، وضمن سلطته الفاشية اليومية. 

الجمهورية تعني الكرامة للناس وحقّهم في المساواة، والمساواة تهدّد أساس مشروعه: السلالة. لهذا، يُجرف الدولة الجمهورية من مؤسساتها، ويحُوّلها إلى جهاز خاص يخدم سلالة مريضة ومعزولة لا تطيق وجود الشعب، ليس بينها وبين المجتمع إلا مساحة الحرب والكراهية والعداء.

التعايش مع الداخل، بالنسبة للحوثيين، ليس قيمةً ولا مبدأً، ولا مصلحة. هو تهديد يجب سحقه، وحالة شاذة ينبغي تصحيحها بالقوة الساحقة. كل صوت يمني خارج الجماعة هو مشروع جريمة مسبقة. أما المجتمع، فتحاول تشكيله بالقهر، لا بالانتماء والمسؤولية. السلالة لا تريد أن تحكم الداخل ولا تنظمه. تريد فقط أن تملك، وتحتكر، وتفرض.

تصفية الشيخ صالح حنتوس لم تكن مهمّة أمنية فقط، بل رسالة تجاه الداخل. رسالة تقول: لا أحد خارج السلالة.

لا أحد له الحق في أن يختار. لا قرآن إلا قرآننا، ولا تعليم إلا تعليمنا، ولا حياة إلا لمن يقبل الطاعة المطلقة. وما لم يُكسر هذا المنطق، فسيظل كل يمني يحمل داخله حنتوسًا مهدّدًا بالمحو والإبادة.

الوقوف في وجه مشروع السلالة ليس مهمّة عسكرية فقط، إنما أخلاقية وثقافية وسياسية. لا بد من استعادة كل المعاني في مواجهتها: معنى الكرامة، والعدالة، والمقاومة، ومعنى أن يكون الإنسان يمنيًّا لا تابعًا للسلالة، ولا رعيةً للإمامة. 

تبدأ هيمنة السلالة حين تحتكر المعنى وتعيد صياغة كل شيء، وسقوطها يبدأ من تمسّكنا بالمعنى، معنى كل شيء. والمعنى يقودنا إلى المقاومة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.