مقالات

ملك الجوع وسلطان الجياع (سيرة ذاتية 15)

24/09/2025, 09:23:12

بعد أن صرفت الريالات الثلاثة التي حصلت عليها من ابن قريتي الضابط عبد الكريم، وجدت نفسي في "حيص بيص"، وصرت فريسة يومية للجوع. 

صار أقصى ما أحلم به هو الحصول على كُدمة وواحد شاي، أو على كُدمة من دون شاي. واليوم الذي يكون معي فيه ثمن الكُدمة وثمن الشاي هو بالنسبة لي يوم مقدّس، لكن أكثر الأيام قداسة هما يوم الخميس والجمعة من كل أسبوع.

ومثل إخوتنا الشيعة، وهم ينتظرون خروج المهدي المنتظر، كنت أنتظر طوال الأسبوع خروج طلاب الكلية الحربية يومي الخميس والجمعة؛ ذلك لأنهم كانوا في إجازتهم الأسبوعية يعزمونني مرتين: الخميس على عشاء، والجمعة على غداء. 

وبعد عودتهم للكلية أبقى على أمل أنهم سوف يخرجون في نهاية الأسبوع، وسوف أشبع بعد جوع.

لكن الذي حدث هو أن هذه الدفعة تم فصلها من الكلية الحربية، ولم أعد أذكر الأسباب التي أدت إلى فصلها. والشيء الوحيد الذي أذكره هو أن أولئك الأصدقاء، بعد أن تم فصلهم، غادروا صنعاء. 

وبذهابهم ذهب الخميس وذهبت الجمعة، وبقي الجوع في انتظاري فاتحًا لي ذراعيه.

وبعد أن كنت أتغلب عليه بالأمل، صرت بلا أمل وبلا عمل. وكنت كل يوم أطوف على الوزارات والمؤسسات والبنوك والمصالح الحكومية، وجيوبي محشوة بأوراق طلب التوظيف أقدّمها للمسؤولين والمدراء في كل وزارة ومصلحة. 

وكنت أعود من رحلة البحث عن وظيفة وأنا منهك وجائع. وكان الجوع في صنعاء الخارجة من جحيم الحرب أبشع من الحرب نفسها.

ولم يكن جوعًا مثل الجوع الذي عرفته في طفولتي، وإنما كان جوعًا ما بعد الجوع؛ ينهك الجسد، ويلغي العقل، ويسلبك القدرة على التفكير، ويجعلك تنكر أنك إنسان وتنكر أن الإنسان حيوان عاقل. والشيء الوحيد، الذي أنت متأكد منه، هو أن الإنسان حيوان جائع.

وبدلًا من كوجيتو ديكارت:

"أنا أفكر إذن أنا موجود"،

تقول، وقد فقدت القدرة على التفكير: "أنا جائع إذن أنا غير موجود".

ومع أنني وقتها لم أنهِ الثانوية، ولم أدخل الجامعة، ولم أدرس الفلسفة بعد، إلا أن الجوع كان فلسفتي اليومية. 

وتحت وطأة الشعور بالجوع، كنت أعتقد بأن لكل فرد في صنعاء وجودًا خاصًا به، وأنا الوحيد لا وجود لي، ووجودي أشبه ما يكون بالعدم. 

أيامها كنت واقعًا تحت سطوة كتاب سارتر: "الوجود والعَدَم"، وكان ذلك الكتاب قد عمّق من شعوري بالعَدمية، ومن إحساسي باللاجدوى، رغم أنه كتاب صعب لم أفهمه ولم أكمل قراءته.

وذات مرَّة، وقد عدت من رحلة البحث عن العمل وأنا فاقد الوعي، ولشدة ما كنت جائعًا، دخلت مطعمًا في "باب السباح" اسمه "مطعم غيلان"، وطلبت أكلًا. 

وبعد أن أكلت وأفقت من غيبوبتي، رأيت ذبابة جائعة مثلي ودائخة من الجوع، فكان أن أمسكت بها وغمرتها بين بقايا سلتة في قاع الحرضة، وبدأت أحتج وأصرخ.

وفي تلك الأيام كانت الرّقابة شديدة على المطاعم، وكان هناك عقوبات وغرامات على من لا يتقيَّد بتعاليم وزارة الصحّة أو البلدية بشأن نظافة المكان ونظافة الطعام، وأحيانًا كانوا يغلقون أي محل أو مطعم لا يلتزم بالتعاليم. 

ويومها حضر صاحب المطعم وسألني بقلق عن سبب صراخي، فقلت له وأنا أشير إلى الذّبابة: "إيش هذه الوساخة بالله عليكم؟!".

ولشدّة خوفه من أن يغرموه أو يغلقوا محله، أعفاني من الحساب. لكن حسابًا عسيرًا كان ينتظرني؛ ذلك لأنني، بعد حادثة الذّبابة، حضرت للمطعم ومعي صرصار ميّت كنت قد لَففته بورقة من تلك الأوراق التي أكتب فيها طلب توظيفي، ووضعته في جيب معطفي. ولم أكن أعرف أنني، بعد حادثة الذّبابة، صرت مراقبًا وتم وضعي تحت الرّقابة.

وفي اللحظة التي أخرجت فيها الصرصار من جيب الكوت ودسسته بين بقايا الأكل، هجموا عليَّ واقتادوني إلى قسم شرطة "باب السباح". وكان المطلوب منِّي أن أدفع قيمة الوجبتين: "وجبة الذّبابة" و"وجبة الصرصار".

لكن الضابط المسؤول، وكان رجلًا عاقلًا في الخمسين من عُمره، أدرك بعد أن تفرّس في وجهي أن الجوع هو الذي أجبرني على ذلك الفعل القبيح. 

وبعد أن صرفهم قال لي: "ثاني مرَّة، لو ما تجوع، تعال اجزع عندنا الظهر أُسْلُت لك، وربّك كريم".

ومع أنه كان شهمًا ونبيلًا، إلا أنّني من يومها احتفظت بجوعي وكبريائي. وكنت عندما يعزمني أحدهم على غداء أو عشاء أستحي وأخجل ولا أقبل، وأقول له: "شكرًا"، أقولها وأنا أكاد أسقط أرضًا من شِدة الجوع.

ثم، وقد يئِست من الحصول على وظيفة مع الدّولة، حصلت على وظيفة مباشر في "مطعم النّجاة"، وكان ذلك بوساطة، فقد توسّط لي أحدهم عند صاحب المطعم. لكن صاحب المطعم كان له شرط وهو: "العمل مقابل الأكل".

وحين قال لي الوسيط بشرط صاحب المطعم فرحت فرحًا شديدًا؛ فقد كان الحصول على الطعام مقابل العمل هو أقصى ما أحلم به وأتمنّاه.

لكن صاحب المطعم البخيل طردني بعد مرور أسبوع أو أسبوعين، وكانت حجّته أنني أدس إصبعي في أنفي أمام الزّبائن، مع أنني كنت أنظف منه وأنظف من كل المباشرين، وملابسي التي تغسلها اليهودية "نعومي" أنظف من ملابسه، وأنظف حتى من ملابس الكثير من الزّبائن.

وبعد طردي من "مطعم النّجاة" اشتغلت في مطعم بشارع القصر الجمهوري، قبالة مدرسة جمال عبد الناصر، لكنه طردني بعد كم يوم. 

كان قد فتح باب المزاح معي، وبدأ يمازحني بطريقة ساخرة، وفي ظنه أنني لن أرد عليه طالما أنه ربُّ عملي، وحين رددت عليه زعل من ردي وقام بطردي بحُجة أني سليط لسان وقليل أدب. 

وبعد أن طردني، ذهبت إلى صاحب منجرة بجانب السفارة الصينية، وبقيت قرابة شهر أشتغل بأكلي. وكان صاحب المنجرة قد سلّمني للمعلم الذي راح يعلمني ألف باء النّجارة. 

وذات مرة، وهو يعلمني لغة المسامير وكيف أطرقها وأثبتها في أماكنها، ارتبكت، وبدلًا من أن أطرق المسمار طرقت يده بالمطرقة. وكان ذلك بالخطأ، لكن النّجار الحقير قال لصاحب المنجرة إنني غبي، ولا أصلح لتعلم النّجارة.

بعد ذلك، أقبل رمضان، ومع أنه شهر كريم، إلا أنه كان بخيلًا معي، وفيه جعت جوعًا لا يعلم به إلا الله. 

كان جوع الليل يمحو جوع النهار، وجوع النهار يمحو جوع الليل. وكنت قد نحلت وفقدت الكثير من وزني.

وكل يوم وقت أذان المغرب، كان المارّة في شارع علي عبد المغني يتبخّرون ويتلاشون ويختفون، ويغدو الشارع فاضيًا ساكنًا صامتًا إلا من نباح الكلاب، ومن وقع خطواتي على الرّصيف.

وفي تلك اللحظات، وأنا أذرع الشارع وحدي، كان يساورني شعور بالزّهو؛ لكأنّني ملك الجوع وسلطان الجِياع، كأنّ الشارع مملكتي والكلاب رعيّتي.

مقالات

الانتقالي والتطبيع.. مسار يعيد إنتاج الارتهان وينسف شرعية 14 أكتوبر

منذ انطلاقتها في 14 أكتوبر 1963، رفعت الثورة اليمنية في الجنوب هدفا استراتيجيا واضحا تمثل في انتهاج سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، انسجاما مع روح حركات التحرر الوطني التي سعت إلى بناء دول مستقلة القرار، بعيدة عن الاستقطابات الحادة بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي الشرقي.

مقالات

مؤتمر الباحثين والخبراء في إسطنبول... شمعة في وجه العتمة

تابعت جلسات مؤتمر الباحثين والخبراء في إسطنبول الذي انعقد مؤخرًا بمشاركة نخبة متميزة من الباحثين والخبراء اليمنيين من الداخل والخارج، الذين اجتمعوا على كلمة واحدة عنوانها الإخلاص للعلم وخدمة الوطن، فكانوا صورة مشرفة للعقل اليمني الباحث عن الحقيقة والمبادرة في زمن التشتت والصراعات.

مقالات

الرابع عشر من أكتوبر وعد المستقبل

يتذكر اليمنيون -بكل الاعتزاز والفخر- مناسبة العيد الثاني والستين من ثورة الرابع عشر من أكتوبر. الفخر والاعتزاز يغمرهما فيض عميم من التعاسة والحزن على ما أصاب اليمن وثورتيها: سبتمبر، وأكتوبر.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.