مقالات

محمد محسن عطروش: صيحة الاستقلال ونغمة لا تخطئ القلب

27/11/2025, 06:12:21

قرأت في سيرة الفنان محمد محسن عطروش أنه درس الأدب الإنجليزي في القاهرة، ثم عمل مدرسًا للرياضيات واللغة الإنجليزية في عدن، فحضرت في ذهني حلقات برنامج قديم في قناة السعيدة، مسابقة فنية كان يشارك فيها فنانون شباب، وكان عطروش في منصة التحكيم. استعدت صورته هناك: دقة ملاحظاته، حضوره الذهني، انضباطه في الاستماع، وإصراره على تصويب أدق الأخطاء في الأداء واللغة وحفظ الكلمات.

هذا ملمح أساسي في شخصيته، لا فحسب في البرنامج التحكيمي. ربما ساهمت دراسته في صقل هذا التكوين وجعله سمة راسخة فيه تتكامل مع وجدان فنان أبدع بعضًا من أهم أيقونات الأغاني الوطنية والعاطفية في تاريخ الغناء اليمني.

وتقرأ سمات ثقته القصوى بالذات وصرامة شخصيته أيضًا في كثير من محطات حياته كفنان: وطنيته، اختياراته، مواقفه، قوة تعبيراته فيما يغنيه وفي الحياة السياسية العامة التي حضر فيها بأغانيه وشخصيته كفنان له موقفه الوطني وانحيازاته السياسية في مراحل مختلفة.

عطروش فنان ومدرس رياضيات ولغة إنجليزية، تميز بصوته العذب وبألحانه الجديدة التي تجمع بين الجميل الحديث والصلة الوثيقة بالفلكلور والارتباط بالأرض والزراعة.
هذا ليس تناقضًا، ولكنه تكامل ثري يجمع بين وجدان يشع بالمحبة وذهنية صافية قادرة على التقاط أدق التفاصيل.

التقيته مرة واحدة قبل عامين تقريبًا في صالة أعراس، وسلمت عليه بمقطع من أغنية شهيرة من أغانيه، لكنه لم يُفَوِّت هفوة صغيرة في كلمة من الأغنية؛ صححها لي وهو يرد السلام والقُبل وإشارة المحبة.

تلك الحماسة اللطيفة، وذاك الانتباه الدقيق، يعكسان حقيقة شخصيته أكثر مما يفعل أي توصيف آخر.

ورغم تجاوزه الثمانين، ما يزال نظامه الحيوي متقدًا بكامل حيويته: صفاء في الصوت، حضور ذهني متوثب، ودفء في الإصغاء لمحبيه الذين يزدحمون حوله في المقيل أو في المناسبات. روح موصولة بالمحبة، لا تبهت ولا تنطفئ، مهما تعاقبت الأيام والسنوات والحِقب.

- الفنان الوطني: «برع يا استعمار»

لمع نجمه في مفتتح حياته الفنية بأغنية وطنية تحولت، مع مرور الزمن، إلى النغمة الأولى للاستقلال الوطني في جنوب اليمن، وأيقونة خالدة لا تغيب عن الذاكرة الوطنية لليمن في كل المراحل: أمس واليوم وغدًا وبعد غد.


«برع يا استعمار.. من أرض الأحرار» لعلع بها صوته في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، ولم يكن قد مضى على دخوله عالم الغناء سوى عامين.

بدت الأغنية آنذاك كأول صيحة وطنية صادقة في وجه الاستعمار البريطاني، وكأنها مقياس للشعور الوطني في ذروة اشتعاله. كانت شرارة مبكرة لثورة أكتوبر التي جاءت بعدها بثلاث سنوات، وبشارة أولى بالاستقلال الذي تحقق في الثلاثين من نوفمبر 1967.

الفن قادر على صنع المصير الوطني، مثلما هو قادر على تغيير العالم. كانت أغنية عطروش الوطنية أقوى من عشرات الخطابات السياسية؛ أو بالأحرى: كانت نبض الخطاب الوطني، الذي يصل إلى الوعي عبر ترددات المشاعر، لا عبر المحاججات السياسية.

ظهر عطروش في بودكاست شاهدته مؤخراً، بقامته الشاهقة، قائلاً: «قلتُ برع يا استعمار في وجه بريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، وفي وجه الملكة.. وتريدون مني اليوم أن أقولها في وجه أخي اليمني!»
كم هم السياسيون صغارًا وبلا انتماء، وكم يبدو الفنان — في نموذجه الأرقى ممثلًا بعطروش — أرفع قامة وأعمق أصالة. يتسامى عن الانخراط في صراعات الانحطاط، ويبقى ثابتًا على أرض القيم التي صنعته فنانًا وطنيًا كبيرًا.

- عطروش كما عرفته من أغانيه

سمعت صوت عطروش لأول مرة من إذاعة عدن في الثمانينيات. وما يُسمَع في الطفولة وبدايات الانفتاح على الحياة لا يُمحى من الوجدان. صوته جميل وعذب، وأبدع ألحانًا جديدة خارج المألوف. سأعود للحديث عن الأغاني المستقاة من الفلكلور الشعبي والأرض والإنسان وتميّزه كملحن، لكنني أستبق ذلك بما لامس قلبي أولًا. عطروش كما عرفته من أغانيه؛ دونما تأطير فني، بعيدًا عن أي تصنيف للكلمات أو اللحن.

خفق قلبي لنغمة صوته في «جاني جوابك». وحفظت أغنيته: «يا رب من له حبيب، لا تحرمه من حبيبه». وافتتحتُ صباحات كثيرة بنبرة الحنين في: «بالله أعطني من دهلك سبولة»، ودفء الرجاء في «متى يا هاجري، عينك عينك تراني»، وعفوية العتاب في «ليه كذا بالله». ثم ذلك الدفق الشعبي الفوَّاح برائحة الأرض والبساتين في «يا بايعات البلس والقات يا نازلات من علالي صبر لخضر».

لم أكن أعرف يومها ما يسمى «الأغنية العاطفية» أو «الأغنية الشعبية» أو «اللحن الحديث». كنت أعرف شيئًا واحدًا فقط: أن هناك صوتًا يدخل القلب بلا استئذان، ويستقر فيه بلا شروحات أو تفسيرات.
الفن الحقيقي يُدرَك بهذه الطريقة؛ يُعرَف بنبض نغماته، لا بمصطلحاته. يسمعه الواحد منا فيتعرف عليه كأنه كان ينتظره. يألفه بلا مقدمات، كأنه الإحساس الداخلي الذي يطابقه ويفتح مغاليقه.
وعطروش، فنان عاطفي في المقام الأول؛ ولا تحتاج وأنت تسمعه لأي جهد لإدراك جمال صوته. إذا وُضع مقياس لفنان الحُب، فستكون أغنية عطروش الشهيرة «يا رب من له حبيب» مقياسًا يتكثف في ذلك الرجف الخفيف الذي يصيب القلب حين يبدأ صوته في تنغيم الكلمات ومزجها بالمحبة:
«قضيت العمر أحبه وذوب أجري وراه، وأخاف العمر يفنى وأنا أتمنى لُقاه. وأخاف الورد يذبل وأقنع من جناه، يا رب من له حبيب، لا تحرمه من حبيبه».

يتسرب صوت عطروش إلى الوجدان بسهولة الماء وقدرته على الوصول إلى الأماكن القصية والتفرعات الهامشية. يصل إلى وجدانك وتغمر أغانيه تلافيف قلبك، قبل أن يلتقطها حضورك الذهني، وتشعر بالود الممزوج بصوته قبل أن تفهم معاني كلماته.

لقد عرفت عطروش من أغانيه، لا من سيرته وتصنيفات النقاد لفنه وشخصيته كفنان. عرفته من مقاطع أغانيه التي أرددها وأستخدمها لإعادة الانتظام في مزاجي وتنقية الذهن من ضجيج يقتحمه من خارجه: «طبع الزمن هكذا، يخلق من الأحباب في لحظة شواني».
عرفته من «للْمَه للْمَه وا غصين البان، غضيت عني طرفك النعسان».
عرفته من أغانيه لا من شهادات النقاد وأهواء التصنيفات.
وهنا بالتحديد يقع سرّ فنه: أنه يدخل إلى المستمع من باب الوجدان، لا من القراءة عن أنواع الغناء والأنماط الفنية. هذه هي البوابة التي دخل منها ذاكرتي الغنائية، وإلى كثيرين غيري؛ وهذا هو الأساس الذي يمكن بعده فقط الحديث عن السيرة الذاتية والنوع الغنائي والفلكلور والتراث والألحان والابتكار.

- عطروش والفلكلور الشعبي: استلهم روح الناس والأرض وأبدع ألحانًا جديدة

بدأ عطروش حياته الفنية مهتمًا بالتراث الشعبي والفلكلور المرتبط بالأرض والزراعة. والفلكلور الشعبي يعني ببساطة: ذاكرة الناس.
أسّس فرقة فنية في أبين وعدن بعد عودته من القاهرة، في بداية حياته الفنية، واهتم بإبداع أغاني جديدة تستلهم التراث الحي الذي يعبّر عن هوية الناس وثقافتهم ومخيلتهم ومشاعرهم كما عاشوها، لا كما كتبتها النخب المنفصلة عنهم.

لم يكن محمد محسن عطروش فنانًا فلكلوريًا بالمعنى التقليدي الذي يكتفي باستعادة الموروث كما هو.
كان مبدعًا على نحو فريد ونادر في الغناء اليمني الحديث. قدم تجربة غنائية حفرت اسمه باعتباره فنانًا يستلهم الفلكلور ليصنع منه فنًا جديدًا.

كان ابن الشعب، ورائدًا في تقدير موروثه وفلكلوره، حين كان بعض الفنانين في تلك الفترة ينظرون إلى «الفلكلور» بازدراء، ويعدّونه فنًا محتقرًا.
أثبت عطروش أن الفلكلور يمكن أن يكون أرقى مراتب الإبداع حين يمرّ عبر حسّ ملحن كبير.

لقد استلهم عطروش روح الناس وموضوعاتهم وحركات حياتهم اليومية، لكنه لم ينقل الألحان الشعبية كما هي. صاغ ألحانًا جديدة كليًا، لكنها نغمات ممتزجة بالتراب والسبول والزرع والماء والفلاحين وصوت بائعات الفُل والقات.

في أغانيه: «يا بايعات البلس والقات يا نازلات من علالي صبر لخضر»، «بوس الأرض»، «بالله أعطني من دهلك سبولة»، «جينا إلى البندر في شهر نيسان نشتي نبيع الفل»، وغيرها… نجد اليمن بكل ما فيها: الأرض، الجبل، السوق، المواسم، المرأة المكافحة، السيول، رائحة الفل. لكن الألحان التي تحمل هذه الصور لم تكن منقولة من أي مخزون تراثي سابق، بل كانت ابتكارًا خالصًا، بجرأة موسيقية لا تزال في صدارة التجديد الغنائي اليمني الحديث.

لم يكن «فنانًا شعبيًا» بالمفهوم المتداول، بل فنان فلكلور رفيع، اشتق من التراث روحه لا قوالبه، وخلق نموذجًا غنائيًا يمزج بين الحس الشعبي والعقل الموسيقي الحديث. لقد قدّم فلكلورًا مُعادًا خلقه، مثل شاعر يجدد الوزن والإيقاع والمفردات دون أن يقطع صلته بالمنبع.
وهذه هي القيمة التي جعلته يتقدم على من تعالوا عليه وحاولوا السخرية منه في بداياته. لقد صنع فلكلورًا معاصرًا لا يقل جمالًا ولا إحكامًا عن أحدث الأعمال الموسيقية، بل يتفوق عليها في أدائه وألحانه وفي التصاقه بحياة الناس.

قائمة طويلة من أغانيه كانت من كلمات رفيق عمره الشاعر المتميز عمر عبد الله نسير.
وغنى له فنانون كبار مثل محمد صالح عزاني وأحمد علي قاسم. هذا الأخير غنى له واحدة من أجمل الأغاني اليمنية: «أنا أترجاك بس تسمع كلامي، وبعدها احكم واتحكم.. أنا أترجاك وا حبيبي».

- فن يستنهض الروح ويجبر كسورها

في إحدى رواياته يقول ديستويفسكي: «الجمال سينقذ العالم».
والفن أرقى تجليات الجمال. الفن يغيّر العالم لأنه يغيّر الداخل أولًا. يغير الإنسان.
الفن ملاذ اليمن في هذه المتاهة المتطاولة. وفن محمد محسن عطروش من هذا النوع بالذات الذي قال عنه ديستويفسكي إنه سينقذ العالم.
أغاني محمد محسن عطروش تثير مشاعر الغبطة والمحبة والانتماء في أعماق الروح اليمنية. فنه يغيّرنا بطرق عميقة وجوهرية.

أغانيه جزء أصيل من القوة التي تعيد تشكيل الوجدان اليمني في لحظات الشدة والألم والانكسار. أغانيه — الوطنية منها والعاطفية والفلكلورية — تعيد الإنسان إلى ما يميزه في داخله: انتماؤه، محبته، رغبته في الحياة، قدرته على الفرح رغم كل شيء.

يقول سولجستين إن قوة الفن الحقيقية تكمن في أنه «يقنع حتى القلب المعارض ويجبره على الاستسلام». وهذا ما يفعله صوت عطروش حين ينساب في الوجدان. لا يجادل ولا يرفع صوتًا وسط ضجيج معركة الجميع ضد الجميع؛ بل يدخل القلب مباشرة، ويكشف لمن يصغي السمع ماهيته كإنسان، إنسان فحسب مثل أي إنسان آخر.
نغماته وأغانيه تستنهض كل ما هو مهم وأساسي: الوجدان، والكرامة، وانحياز الإنسان للحياة مهما طال ليل البلاد.

لا شيء آخر يمكن أن يقال. فقط أقول إن أغاني محمد محسن عطروش ونغمات صوته العذب ستبقى حاضرة في ذاكرة اليمنيين ووجدانهم، رغم تعاقب الزمن وتغير الأذواق.

مقالات

تصعيد الحوثي تجاه بيت هائل.. لماذا الآن؟

اشتدت الحرب الحوثية على قطاع التجارة بشكل لافت بعد أن أقدمت الولايات المتحدة على تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية وفرضت عقوبات على جميع الشركات التجارية المحسوبة عليهم، والتي كانت تسعى لإحلالها كبديل في السوق لمجموعة بيت هائل.

مقالات

عودة الخروف الضائع – 5 – (سيرة ذاتية – 24)

بعد أن أُوصدت جميع الأبواب في وجهي قررتُ العودة للدراسة. وفي صباح ذات يوم ذهبتُ إلى مدرسة جمال عبد الناصر في شارع القصر الجمهوري، وقابلتُ الأستاذ محمد الشامي مدير المدرسة، وكلمته عن رغبتي في الالتحاق بمدرسته.

مقالات

الشعر الحميني: سردية الجذور والتحولات وزمن الظهور - (الحلقة الثانية)

تكوّنت المعرفة الأكاديمية الحديثة حول الشعر الحميني داخل إطارٍ منهجي صارم، ربط نشأته بالعصر الرسولي في القرن السابع الهجري؛ لا لأن الباحثين كانوا مقتنعين بحداثة هذا الفن، بل لأن الوثيقة -لا غيرها- هي التي حكمت دراساتهم.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.