مقالات

متحف الذاكرة في تعز..

06/09/2025, 19:26:59

كنت أترقب افتتاح "متحف الذاكرة" في تعز بحماس صادق، مدفوعا بشغفي القديم بكل ما يمتّ للتوثيق بصلة، تصورت أنني سأجد مكانا يخلّد جراح المدينة، ويعرض للناس بقايا الرصاصات والقذائف، وصور المحاصَرين، ووثائق الجوع، والشكاوى، والوفيات؛ لكن الصدمة جاءت مبكرة؛ أول الصور التي نشرت من الافتتاح لم تكشف عن متحف بالمعنى الذي نعرفه، بل عن معرض فني بحت؛ لوحات زيتية، منحوتات رمزية، ألوان ومساحات واسعة، بينما الأدلة غائبة؛ لا أدري لماذا أصرّوا على تسمية هذا "المعرض" متحفا؟ ما الحاجة لاستهلاك المصطلح في غير موضعه؟ هل الدافع جهل بالقيمة الحقيقية للمفهوم؟ أم هي محاولة بائسة لإلباس القط جلد الأسد، كما يقال؟

المتحف في أي مكان في العالم يعني مكانا تُعرض فيه الأدلة الأصلية، الوثائق التي لا تقبل التشكيك، الأشياء التي حملت أثر المأساة في لحظتها الأولى؛ المتحف ليس قاعة لتأمل الرموز أو قراءة الانطباعات، بل بيت الذاكرة الصلبة؛ أما ما عُرض اليوم في تعز فكان شيئا آخر؛ مجسم خشبي "ذو دلالة"، لوحة زيتية ممتدة على خمسة أمتار؛ لوحات مقاس متر مربع، هكذا تلاشت الحقيقة، وحلّت محلها رموز تُقال وتُؤول؛ من سمح بتسمية هذا المكان متحفا، خان المصطلح، وأفرغه من معناه، وجعل الذاكرة الجمعية مادة فنية للتزيين بدل أن تكون ذخيرة للتاريخ.

أين الصور الحقيقية للناس المحاصَرين؟ أين بقايا القذائف التي أمطرت المدينة؟ أين شهادات الوفاة التي امتلأت بها سجلات المستشفيات، وأين صور الجنازات التي سارت في الأزقة الضيقة؟ أين صور قوافل الجمال وهي تحمل عبوات الأوكسجين؟ أين استمارات الشكاوى التي كتبها الأهالي بأيدي مرتجفة وعيون دامعة؟ لا وجود لشيء من هذا كله؛ كل ما وجدناه لوحات زيتية! لم يكن هذا متحفا يواجه العالم بالأدلة، بل قاعة فنية تتوسل بالرمزية حيث يجب أن يكون البرهان، وتستدعي الخيال حيث يجب أن يُستحضر الواقع.

المدهش أن القائمين على المعرض يبررون غياب الأدلة بعبارة جاهزة: "التمويل ضعيف"؛ كأن تصوير مقذوف أو جمع شهادة وفاة يحتاج ميزانية بملايين؛ التوثيق لا يكلّف سوى إرادة تحترم معنى الحصار وحق ضحاياه في أن تُحفظ ذاكرتهم؛ لكن ما حدث أن ضعف التمويل تحوّل إلى شماعة، تُعلّق عليها كل فجوة وكل غياب؛ مع أن الجهات نفسها التي تولّت تنظيم هذا "المعرض ـ المتحف" سبق أن أصدرت عشرات التقارير المليئة بالأدلة القانونية الملموسة على انتهاكات الحصار من شهادات الضحايا، وثائق الاعتقال، أسماء القتلى والجرحى، بقايا المقذوفات، وحتى محاضر الشكاوى المرفوعة إلى الهيئات الدولية؛ منظمة "سام"، ورابطة أمهات المختطفين، ومكتب شؤون الحصار في تعز، كلهم عملوا لسنوات على جمع هذه الأدلة؛ فإذا كانوا اليوم عاجزين عن إظهارها في "متحف حقيقي"، فمن عساه يكون قادرا على ذلك في العالم؟ أي رسالة يوجّهونها حين يستبدلون ما لديهم من أرشيف ثقيل بالدلالات، بمنحوتة رمزية أو لوحة زيتية؟ 

الضحايا الذين انتظروا أن يجدوا ذاكرتهم مصونة في متحف، خرجوا ليجدوا أن جوعهم وعطشهم وخوفهم صار لوحة، وأن موتهم صار منحوتة رمزية؛ ما الذي يعنيه هذا لأم فقدت طفلها على حاجز حصار؟ أو لمقاتل عاد بلا ساق من جبهة مغلقة بالتراب والجوع؟ حين تُستبدل شهاداتهم بألوان زيتية، فهذا ليس تكريما لآلامهم بل تقليص لها إلى مشهد بصري رمزي يمكن أن يكون مقبولا في معرض فني لا ينتحل اسم متحف.

هذا الأسلوب لا يكتفي بتجريد الضحايا من حقهم في الشهادة، بل يعيد حصارهم مرة أخرى، ولكن هذه المرة داخل الذاكرة الجمعية، ذاكرة بلا أدلة، بلا وثائق، بلا حقيقة صلبة؛ وهنا يتحول الحصار من جريمة قابلة للتقاضي إلى مجرد لوحة جميلة على جدار صالة عرض.

ما افتتح اليوم في تعز ليس "متحف ذاكرة" بل خدعة لغوية وديكور بصري؛ متحف بلا أدلة يشبه محكمة بلا ملفات، وأرشيفا بلا ورقة واحدة أصلية؛ هذا ليس تخليدا للحصار، بل إعدامه في الذاكرة، ومسح منهجي لآثار الضحايا تحت طبقات من الطلاء الزيتي؛ لو كان الهدف هو الفن، فليُقال معرض فني وانتهى الأمر؛ أما أن يُستهلك مصطلح "متحف" لتزيين قاعة فارغة من الأدلة، فهذا إساءة للذاكرة وإهانة للحصار وأصحابه؛ إذا كان هذا هو المتحف، فإن صور الجوالات المبعثرة على حسابات الفيسبوك أصدق، وبقايا الشظايا في أزقة المدينة أوثق، وشواهد قبور الضحايا أعمق من اللوحات الزيتية.

 

 

مقالات

تشرشل والعليمي

لم يجد تشرشل وقتًا للجلوس على موائد مع من قد يخرجون لاحقًا للحديث عنه ومقارنته بزعماء آخرين. وإن وجد الوقت، كان سيرفض الجلوس. عبقرية القادة وطبيعة اهتماماتهم الكبرى تمنحهم حساسية بالغة تجاه أولئك الذين يختزلون كل شيء في مائدة دسمة ومقابلة عابرة.

مقالات

"يا أخي اتخارج".. كيف لخص محمد عبدالولي مأساة اليمني في عهد الإمامة؟

في مجموعته القصصية "شيء اسمه الحنين"، وفي قصة بعنوان: "يا أخي اتخارج"، يلخّص محمد عبدالولي معاناة اليمني في عهد الإمامة، وكيف كان عسكري الإمام يعبث بالمواطن دون أي سبب، يتهجم إلى منزله، ويستدعيه للحضور إلى مسؤول الإمام.

مقالات

علي عبد المغني التاجر - 11

بعد موت خطيبتي تغريد وفشل مشروع زواجي، ذهبتُ إلى صنعاء ومعي مذكرة من رئيسي في العمل إلى رئيس هيئة الأركان بشأن ترقيتي من عسكري إلى رتبة رقيب.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.