مقالات
سماسرة التأثير الموهوم
فصيلة غريبة تنمو في الهامش السياسي والثقافي والمعرفي لبلدنا.. أفراد يقدّمون أنفسهم خبراء، باحثين يتحدثون كأصحاب نفوذ وتأثير على السياسة الغربية والدولية، ويحاولون انتزاع اعتراف محلي بقدرتهم على الوصول إلى مراكز القرار في الدول الغربية النافذة. يتغذّون على خيالات الاعتراف الخارجي، يكتبون تقارير لا يقرأها أحد، يعيشون على فكرة أنهم يوجّهون من بعيد موازين قوى دولية لا تراهم.
لا يقفون إلى جانب شعوبهم ولا ينخرطون في معاركها ولا يتصفون بحد أدنى من الجدارة الفكرية والمعرفية لفهم وتحليل المسألة اليمنية بأبعادها الاجتماعية والسياسية المحلية.
يترجمون القضايا المحلية والمأساة التي صنعتها الحوثية إلى مفردات جيوسياسية باردة.. كلها ممرات بحرية، مصالح نفطية، خرائط نفوذ، اللاعبين الدوليين، السردية الأمريكية. أما الناس أنفسهم، جروحهم، مآسيهم، قضاياهم السياسية وحقهم في العيش والكرامة، جميعها غير مرئية.
حين يهتموا بالشأن اليمني يتبدى أمامنا باحثون يلوحون بـ"الإرهاب". استُخدم هذا المصطلح طويلاً كعصا استعمارية، كوسيلة إذلال وابتزاز للعرب، لكن هؤلاء "الباحثين" قرروا أن يكونوا وكلاء محليين لهذه العصا. يهددون أبناء بلدهم: إذا لم تنصاعوا، سنكتب عنكم وستصبحون في لوائح الإرهاب الأمريكية.
الخطاب الذي ينتجونه يعمل على تجريد جوهر القضية والصراع بأبعاده الوطنية والاجتماعية وتحويل معركة مصيرية إلى مشكلة أمنية قابلة للإدارة. جوهر الصراع في اليمن ليس صراعَ نفوذٍ مجرد، إنه مواجهة مشروعين متضادين. إمامة عنصرية شمولية تتعامل مع الشعب كجسدٍ يجوز تجريفه وإحلاله، منهاجُها يقوم على الإبادة والتجريف، وشعبٌ يُمسك بفكرة الجمهورية ويحوّل كرامته إلى سلاح، يقاتل ليس ككتلة متفرّجة او كضحية على الهامش، انما كقضية تطالب بحقٍ أصيل في الكرامة والحرية والسياسة والتنمية.
هؤلاء لا يكتبون تحليلاً.. يمارسون الوشاية، لا ينطقون بلسان المعرفة وعقل الخبير، بقدر ما يتحدثون بلسان المخبر على الهامش. يتخيّلون أن تقاريرهم تُفتح على مكاتب البيت الأبيض أو الكونغرس، وأن تغريداتهم تفرض نفسها على صانعي القرار في الإدارة الأمريكية.
الوهم يمنحهم نشوة خاصة، يتخيّلون أنفسهم شركاء في معارك النظام الدولي، بينما لا يملكون سوى صداقات هامشية مع كتاب خواجة بعيون شقراء اضطروا لعلاقات مع باحثين صغار يستخدمونهم كمرشدين سياحيين. الباحث هنا دلّال للخبراء الغربيين عادة. مع ذلك يتوهمون أنهم يحددون للغرب أولوياته، بينما الغرب ذاته لا يكلّف نفسه عناء النظر إليهم. أقصى ما يصلون إليه هو إدعاء الخطورة والتأثير. يدركون أن الغرب لا يحتاج لخدماتهم المجانية في الوشاية، فيجهدون في التمثيل أمامنا من أجل انتزاع اعتراف منا بكونهم مخبرين مؤثرين لقوى دولية مؤثرة.
يفرغون السياسة المحلية من معناها، يحوّلون الصراعات الاجتماعية والسياسية إلى مجرد لائحة أسماء، ويستبدلون النقاشات الجوهرية عن العدالة والحرية والكرامة والتنمية والجمهورية بتهديدات صبيانية عن التصنيفات الخارجية في لوائح الإرهاب والعقوبات.
نحن لا نتحدث عن أفراد بعينهم، هذا نمط متكرر للباحث/الناشط الذي تخلى عن مجتمعه وبلده وصار يعيش في مرآة الحسابات الغربية، باحثاً عن اعتراف منها ولو بثمن خيانة الذات. لسنا أمام خطأ في حسابات هذا النمط بقدر ما هو مرض سياسي وأخلاقي، علامة على انكسار داخلي ، وافتقاد للكرامة قبل أن يكون افتقاداً للفهم وغياب الجدارة.