مقالات

رأي من لا رأي له

10/07/2023, 17:35:17

ليس أخطر من الكتابة الساخرة، مثلما ليس أعسر من الكتابة عن السخرية.

والسخرية -  التي أقصد  - ليست تلك الفكاهة التي لا تزيد عن كونها مبعثاً للضحك فقط، أو تلك الطرافة التي لا يتجاوز حضورها حدود اللحظة الراهنة. إنما قصدت بها ذلك اللون الإبداعي أو الفن الفردي أو الجماعي الذي تنتجه الشعوب على مرّ العصور، بحيث يغدو تراكماً ثقافياً وحضارياً لأمةٍ بأكملها، يُمحى معه المصدر الأصل في أحيان كثيرة، فقد صار ملكية عامة أو مشاعاً شعبياً.

وفي هذا السياق، صارت النكتة علماً وفناً. علم تهتم بدراسته علوم السياسة والنفس والاجتماع وغيرها، وفن يستهوي الأدباء والكُتَّاب والفنانين وسواهم. وهي فعل إبداعي حقيقي، يعكس حالة ثقافية خاصة بشعب أو مجتمع، تنعكس من خلالها أحوال سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية شتى، وتتسلل من ثناياها صور مختلفة الألوان والأشكال والزوايا في المشهد العام لهذا الشعب أو ذلك المجتمع بما تحمله من ضروب الرفض أو الرضا، القهر أو الأمان، الجوع أو الاكتفاء، البؤس أو الرخاء. غير أن النكتة لا تنتعش ولا تغدو لاذعة كالميسم إلاَّ إذا كانت الصورة في ذلك المشهد سوداء اللون، والزاوية قاتمة الظلال.


والنكتة ليست مجرد مزحة لفظية تُطلق للدعابة المجردة، خصوصاً إذا تجاوزت حدود المنطوق اللفظي إلى المنظور الفني، كما في هيئة الرسم الكاريكاتوري، أو النص الصحافي، أو الأدبي، أو العمل الإبداعي، بأي مسمى أو صفة. وقد ارتقى الحس الجمالي للنكتة -  شكلاً وموضوعاً  - في الأدب الساخر، وفي غيره من فنون السخرية.


وكان للصحافة دور واضح في شيوع وتطور هذا اللون الإبداعي المتميز. وفي الوقت نفسه صارت للسخرية مناهج ومساقات دراسية في عديد من الجامعات والمعاهد، عدا الاهتمام الجاد بها من قِبل مراكز البحث المختصة بالقضايا السياسية والإستراتيجية والاجتماعية، ناهيك عن رصدها من قِبل مؤسسات سيادية كالمخابرات.


إن سخرية الشعوب تُقاس بترمومتر الأحداث في بلدانها ومجتمعاتها، تزداد سخونتها أو تقل بحسب طبيعة الأوضاع السياسية أو المعيشية أو الأمنية، وتختلف مستوياتها وقت الرخاء عنها في وقت الشدة، ووقت السلم عنها في وقت الحرب. كما يغدو التنكيت سلاحاً شعبياً في مواجهة التنكيد الذي تقترفه الحكومات والأنظمة والطبقات المتخمة ضد الفئات المعسرة من الشعب. ومن هنا جاءت أهمية النكتة السياسية، وخطورتها في مضمار المقاومة الشعبية، أو في إطار الحرب النفسية.
...

إن عديداً من أهل العلم والفلسفة والفكر بحثوا في ظاهرة السخرية، أو فيسيولوجية الضحك، ومن أبرزهم: جورج مرديث، وتيودور فيشر، وجوناثان سويفت، وهنري برجسون، وهربرت سبنسر، وآرثر كوستلر، فتوصَّلوا إلى حقائق شتى في المشهد الذي أُصطُلح عليه باندماج النقائض في الحياة، حيث تشهد الحياة كماً كبيراً من التعقيدات والتناقضات والمفارقات، فتصبح السخرية حينها رد الفعل الطبيعي والمباشر على هذه الأوضاع، التي أفرزت قدراً غير محدود من أوجه التنافر وملامح التشوُّه؛ وحينئذ تتولد الظاهرة الهزلية في المجتمع.


وفي التراث العربي أطروحات جمَّة في ظاهرة السخرية، في قديم هذا التراث وحديثه، بدءاً من أبي حيان التوحيدي وأبي عمرو الجاحظ، وصولاً إلى عباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني. غير أن السخرية السياسية لاقت رواجاً واتسعت نطاقاً، وتعددت ألواناً، بظهور الصحافة ودُور العرض المسرحي والسينمائي والإذاعة والتلفزة. أما اليوم  فحدّث ولا حرج - أو يُمدّد أبو حنيفة ولا يبالي - بعد أن ظهر الإنترنت، وتنوّعت وسائل التواصل الاجتماعي، وتعددت فنون "الميديا" المعاصرة.


وبسبب من تاريخ القهر والتنكيل والمصادرة، وهو تاريخ طويل الأمد وعميق الأثر في حياة الشعوب على مرّ العصور والشعوب العربية تحديداً، فإن السخرية السياسية باتت تحتل المرتبة الأولى بين كل الفنون الساخرة لدى العامة والخاصة على السواء.


ولهذا يتشابه أحياناً بل تتطابق الكثير من النصوص والنماذج المتصلة بفن السخرية السياسية، وبالذات في ملفوظات النكتة السياسية لدى العديد من الشعوب. إذْ يحدث كثيراً أن يستعير شعب ما نكتة سياسية من شعب آخر؛ لأنها وجدت هوًى في نفسه، أو أوقعت أثراً في الوعي والوجدان الجمعي لهذا الشعب.


وهكذا صارت النكتة السياسية سلاحاً شعبياً حاداً في مواجهة الظلم والاستبداد في كل زمان ومكان، ولم تعد لهذا النوع من السخرية هوية محددة، أو جنسية، أو جواز سفر، أو تأشيرة، فقد صارت كبساط الريح السحري. كما غدت "رأي من لا رأي له"، وباتت حزب الأغلبية.

مقالات

حكاية الكافرة شُجُون ناشر (2-2)

عندما سألت شُجُوْنْ ناشر الدرويش عبد الحق عن السبب في أن الفقهاء يحرِّمون الغناء؟، قال لها الدرويش إن الفقهاء يحسدون المغنيين على أصواتهم الجميلة

مقالات

"بلقيس" لا تطفئ الشموع

ربّما زهرة العمر قضيتها في قناة "بلقيس"، كنتُ قادماً من عملٍ في وسيلة إعلام رسمية ممتلئة بالمحاذير إلى وسيلة شعارها "صوت كل اليمنيين"، كان ذلك بمثابة انتقال بين عالَمين.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.