مقالات

"الكنز وحكاية قرية "الغمام"

24/04/2024, 12:20:45

بعد عودتها من الجبل بالغنم، أخبرت الراعية أهل قريتها بأنها أبصرت حمارا ميتا في "الهيجة"، جوار الغيل، وفوقه كنز.

وبمجرد أن أذاعت الراعية الخبر، ساور أهل القرية، وخصوصا كبار السن شعور بالفزع، ذلك أن الحمار كان عدوهم، وكان وصول حمار إلى قريتهم، يعني أن هناك خطرا ما يتهددهم.

لكن البعض من أهل القرية راح يشك بكلام الراعية، والسبب هو أن قريتهم كانت تقع بعيدا عن طريق الحمير، فضلا عن أنهم كانوا قد بنوا جدارا عازلا حول قريتهم بعد فرار "الولد الملعون".

وحين سألوا الراعية من أين جاء الحمار؟ وكيف وصل إلى القرية؟ 

قالت إنها لا تعرف من أين جاء ولا كيف وصل!!

وكان أهل القرية يسمعون عن كنوز تأتي من مدينة عدن، تحملها بهائم من حديد إلى منطقة "الراهدة"، ومنها تنقلها الحمير والجمال إلى أسوق القرى، المنتشرة على ضفاف الوديان، وتلك المعلقة في رؤوس الجبال، لكن لم يحدث في حياتهم أن ذهبوا إلى تلك القرى، أو إلى تلك الأسواق، ليبصروا الكنوز، التي طالما سمعوا عنها.

كانوا قد سمعوا من آبائهم وأجدادهم بأن فتيان تلك القرى يسافرون إلى مدينة اسمها عدن، ومنها إلى مدن تقع وراء البحر، ويعيشون فيها حياة غير حياتهم، ويلبسون ملابس غير ملابسهم.

وحين يعودون إلى قراهم يعودون أغنياء، ومعهم أموال وكنوز، لكنهم بعد عودتهم يعصون أمهاتهم وآباءهم، ولا يحترمون كبارهم، ويضربون عرض الحائط بالتقاليد، وكان كبار السن يحذِّرون فتيان القرية من مغادرة قرية "الغمام"، والسير في طريق الحمير، ويقولون لهم إن من يغادر القرية، ويمضي في طريق الحمير، سوف تلحق به لعنة جدهم غيلان. 

 

كان اسم قريتهم "الغمام"، وكانت قرية معزولة، ومحشورة بين جبلين، ومختفية في قعر هُوّة سحيقة لا تصل إليها الشمس، ولا يصل إليها أحد من أبناء القرى الواقعة على ضفاف الوادي، أو من القرى المعلقة في سقوف الجبال. 

ولشدة ما كانوا معزولين، ولديهم ميول قوية للعزلة، فقد أرعبهم وصول حمار إلى قريتهم، وكان أن راحوا يتساءلون: 

- من أين دخل الحمار؟ وكيف اخترق الجدار؟! 

كانوا يرون في وصوله إلى القرية علامة شؤم.

لكنهم -وقد عرفوا بأنه يحمل لهم كنزا داخَلهم شعور بالطمع، وطلبوا من الراعية أن تدلهم على المكان الذي أبصرت فيه  الحمار.

وعندما اقتادتهم الراعية إلى المكان، وجدوا الحمار ميتا، والكنز مشدودا على ظهره بالحبال، وعندها تبين لهم أن الحمار سقط إلى قريتهم من شاهق (راس النقيل)، ومن طريق الحمير.

كان رأي كبار السن هو أن يحفروا حفرة، ويدفنوا فيها الحمار مع الكنز، لكن فتيان القرية اعترضوا، وقالوا: 

"ندفن الحمار، ونخلِّي الكنز لنا". 

كانت معرفة سكان قرية "الغمام" بالعالم المحيط بهم تكاد تكون معدومة.

وكانوا لشدة عزلتهم يعيشون حياتهم بطريقة بدائية مقارنة بسكان القرى الواقعة في طُرُق الحمير، لذلك عندما فتحوا الكنز وجدوا أنفسهم عاجزين عن معرفة محتوياته وغير قادرين على الاستفادة منه.  وفي ساحة القرية، راحوا يجهدون عقولهم علّهم يعرفون ما هذا الكنز الذي وصل إليهم، وهل فيه فائدة لهم؟! وما تلك الفائدة؟!

لكنهم، وقد عجزت عقولهم عن معرفة الفائدة من الكنز، رأوا أن من الأفضل أن يدفنوه بالمكان نفسه، الذي دفنوا فيه الحمار.  لكن فتيان القرية واصلوا رفضهم فكرة دفن الكنز، وراحوا يفكرون، ويعيدون التفكير بعقول أكثر انفتاحا، وبعد أن فكروا مليّا اقترحوا الاتصال بالعالم الخارجي، وجلب خبير من القرى الواقعة على طريق الحمير، كي يخبرهم عن محتويات الكنز، وعن كيفية الاستفادة منه!! 

غير أن كبار السن في القرية توجّسوا خوفا، وكان رأيهم أن أي اتصال بالعالم خارج قريتهم سوف يضرُّ بهم، ويجلب لهم المتاعب، وربما يجلب الغرباء إلى قريتهم.

وحتى يفشلوا مقترح الفتيان بشأن جلب خبير قالوا لهم إنهم لو ذهبوا لجلب خبير من طريق الحمير فإن الخبير لن يأتي ماشيا على قدميه، وإنما سوف يأتي راكبا فوق حمار، وكان الحمار بالنسبة لهم هو عدوهم اللدود، وهو دابة الشيطان، وهو إبليس الذي يغوي الفتيان، ويغريهم بالخروج من قراهم، ويأخذهم إلى المجهول.

وقال لهم الرجل الأكبر سنا: إن الخبير، الذي سوف يجلبونه، سوف يدل الغرباء على قرية "الغمام".

لكن الفتيان كانوا غالبية، وقد أصروا على موقفهم، وعلى ضرورة الاستفادة من الكنز، الذي حمله الحمار الميت إليهم، ومن أجل أن يُطمئِنوا كبار السن، ويزيلوا مخاوفهم، ويقنعوهم بصواب فكرتهم، قالوا لهم إنهم سوف لن يسمحوا للخبير بركوب حمار، ثم إنهم سيعصبون عينيه؛ حتى لا يدل الغرباء على قريتهم بعد انتهاء مهمّته، وعندئذٍ وافق كبار السن، لكن موافقتهم لم تكن حقيقية، وعن اقتناع، وإنما لأنهم كانوا أقلية، ولأنه ليس بمقدورهم أن يقفوا في وجه الغالبية من الفتيان، خصوصا وأن التصويت كان واحدا من أهم التقاليد في قرية "الغمام"، ومن خلال التصويت كانوا يحسمون خلافاتهم، ويحافظون على السلام والوئام.

في صباح اليوم التالي، ذهب ثلاثة فتيان إلى أقرب قرية تقع على طريق الحمير، وعادوا منها ومعهم خبير معصوب العينين، وعند وصوله أزالوا العصابة عن عينيه، وطلبوا منه أن يخبرهم عن محتويات الكنز. لكن الخبير بمجرد أن وقع بصره على ما يسمونه كنزا بدا مندهشا ومستغربا من جهل أهل القرية الذين لا يميزون بين الكنز وبين أشياء عادية موجودة في أسواق ودكاكين القرى، وقال وهو يضحك ساخرا من جهلهم:

"من قال لكم إن هذا كنز؟!".

قال له فتيان القرية، وقد أغاضهم بضحكه وأغضبهم بكلامه:

"هذا كنز ونحنا نعرف أنه كنز"،

كانوا قد شعروا بأن الخبير يستغفلهم، ويستهبلهم، ويقول لهم إن ما عثروا عليه ليس كنزا لغرض في نفسه، وحتى يجبروه على الاعتراف بأنه كنز، راحوا يحذرونه من الكذب عليهم، ويلوِّحون له بالخناجر، ويهددونه بالذبح إن هو كذب عليهم، وطلبوا منه أن يُصدِقهم القول، ويخبرهم بمحتويات كنزهم، ويقول لهم كيف يمكن استغلاله والاستفادة منه. ووعدوه بمكافأة إن هو تعاون معهم، وساعدهم في استغلاله، والاستفادة منه، وشعر الخبير يومها بأنه أمام أناس متوحشين، ومعزولين، وليس لهم دراية بالعالم من حولهم. ولخوفه من أن يُلحقوا به الأذى -إن هو خالفهم الرأي- راح يُلاينهم، ويجاريهم في الكلام. وحين سألهم عن السوق، التي جلبوا منها كنزهم، قالوا له إنهم لا  يذهبون إلى الأسوق، وليس تلك عادتهم، ولا يعرفون شيئا عن الكنوز التي تُعرض فيها، وأنهم لهذا السبب أحضروه ليستعينوا به؛ باعتباره خبيرا يقطن في قرية تقع على طريق الحمير. 

كان في اعتقادهم أن القرى الواقعة على طُرُق الحمير قرى متحضرة، ولدى أهلها معرفة أكثر منهم بهذه الكنوز، وبكيفية الاستفادة منها، ولخشية الخبير من غضبهم، قال لهم إن الكنز، الذي عثروا عليه كنز عظيم.

وعندما سألوه عن محتوياته قال لهم:

"سكر، شاهي، صابون، كبريت، جاز، فوانيس، مرايات وأمشاط". 

ولشدة دهشتهم، راحوا يتهجُّون الأسماء، وينطقونها، ويطلبون منه أن يعيد ذكرها بصوت عالٍ، لكيما يتمكن الجميع من سماعها، وحفظها، وكان أن أعاد ذكرها بصوت عالٍ، وبعد أن حفظوها، سألوه أن يريهم منافعها، وكان أول ما فعله هو أنه أراهم منافع وفوائد الصابون. 

يومها، ذهبت النساء والصبايا إلى الغيل الكبير ليغتسلن ويغسلن الملابس، وعندما أبصرن رغوة الصابون، اتسعت حدقات عيونهن من الدهشة، وتعاظمت دهشتهن عندما تبين لهن فوائد الصابون، ولأن المرايا والأمشاط كانت من نصيبهن، فقد فرحن فرحا عظيما عندما رحن يمشطن شعورهن بالأمشاط العاجية، وينظرن إلى وجوههن في المرايا، وكانت تلك أول مرة يبصرن صورهن منعكسة في المرايا، ثم وقد عرف فتيان وفتيات قرية "الغمام" الفائدة من الصابون، ومن المرايا والأمشاط، سألوا الخبير أن يريهم الفائدة من بقية محتويات الكنز، وبدوره راح الخبير، وقد اطمأنوا إليه يسألهم ليعرف أكثر عن  حياتهم، وعن الأسباب التي جعلتهم معزولين عن العالم من حولهم.                  

كان أهالي قرية "الغمام" يغذُّون أولادهم وأحفادهم بالخوف؛ يخوفونهم وهم صغار من العالم الواقع خارج قريتهم، ويحذرونهم إذا كبروا من مغادرتها، وكانوا يقولون لهم -مهددين ومتوعدين- إن من يحاول منهم مغادرة القرية سوف تلحق به لعنة جدهم غيلان، وسيكون عقابه أن يُذبح بخنجره.

وذات مرة حدث أن ولدا من أولادهم غادر القرية فوق حماره، وانطلق بعيدا باتجاه القرى الواقعة على طريق الحمير، ومن حينها حقدوا على الحمار، وأسموه "دابة الشيطان"، واعتبروه عدوا لهم، وقالوا إن وجوده في القرية مثل وجود إبليس يوسوس للفتيان، ويغريهم بالخروج من جنة قرية "الغمام".

وحتى لا تغري الحمير الموجودة بقية الفتيان بالفرار من القرية، واللحاق بالولد الملعون، ذبحوها بخنجر جدهم غيلان، وقدموها طعاما للنسور، وبعد ذلك قرروا بناء جدار عازل حول قريتهم، واستمروا يبنونه لعام كامل، وبعد أن انتهوا من بناء الجدار هرب فتىً آخر، وقفز من فوق الجدار، ومضى مبتعدا باتجاه طريق الحمير، لكنهم لحقوا به قبل أن يصل إلى الطريق، وقبضوا عليه، وأعادوه، وفي ساحة القرية اجتمعوا ليصدروا حكما بشأن العقوبة، التي يستحقها، ويومها صوّتوا جميعهم على ذبحه بخنجر جدهم الأكبر والأعظم غيلان، المؤسس الأول لقرية "الغمام". 

وكانت تلك الحادثة قد أرعبت جميع فتيان القرية، وأخافتهم، حتى إنهم لم يعودوا في يقظتهم يجرأون على الحلم بالمغادرة، إما في المنام فكان الحمار، الذي مكَّن "الولد الملعون" من الفرار، يتكرر في أحلامهم، ويلوّح لهم كأنه حمار النجاة، وحمار الخلاص.                  

كانت قد مرّت سنوات وسنوات على مغادرة "الولد الملعون" للقرية، وكان أترابه، الذين  حلموا مثله بالمغادرة، قد صاروا رجالا وآباء يحذرون أولادهم، ويتوعدونهم بالذبح بخنجر الجد الأكبر إن هم تجرأوا على الذهاب إلى طريق الحمير، واللحاق ب"الولد الملعون"، ولشدة كراهيتهم للولد الملعون كانوا حين يذكرونه يقرنون ذكره باللعنات، وعندما كان أطفال قرية "الغمام" يسألون الكبار عن اسمه يرفضون الإفصاح عن اسمه الحقيقي، ويقولون لهم: 

- "اسمه الولد الملعون"، ويطلبون منهم أن يلعنوه.

كانت قرية "الغمام" تعيش عصر ما قبل الفانوس، وكان أهالي القرية يشعلون النار بالطريقة البدائية، ويجدون في إشعالها الكثير من العناء.

ولأن الشمس في قريتهم لا تشرق ولا تغرب، أو بمعنى آخر؛ لأنهم لا يرونها، وهي تشرق ولا يرونها، وهي تغرب، فقد كان ليلهم يبدأ من قبل المغرب، ولم يكونوا يعرفون السهر، أو السمر، ويومها طلب الخبير من أطفال وفتيان وفتيات قرية "الغمام" أن يجمعوا حطبا وقشاً، ويكوموه في الساحة، وكان أن انطلق الأطفال والفتيان والفتيات يجمعون الحطب والقش، وبعد أن جمعوا الكثير وكوموه في ساحة القرية، فتح الخبير صفيحة الجاز (الكيروسين)، وصب شيئا منها فوق الحطب والقش المتكوم وسط الساحة، ثم أشعل عود كبريت، وألقى به فوق كوم القش والحطب. وأمام دهشة الجميع، انفجرت النار، وتصاعدت السِنة اللهب، وقبل أن يفيقوا من دهشتهم، راح الخبير يشعل الفوانيس الواحد بعد الآخر، مستخدما الكيروسين، وبعدئذ طلب منهم أن يحضروا له جِمانا مملوءة بالماء، وبعد أن أحضروا جمان الفخار، وضع الخبير في كل جمنة شيئا من السكر والشاي، ووضعها فوق النار. 

وعندما سألوه ما الذي يفعله قال لهم: "اصنع لكم شاهي". ولم يكونوا يعرفون ماذا تعني الكلمة (اصنع)، ولا ما هو الشاي الذي سوف يصنعه لهم، لكنهم كانوا على يقين بأن الخبير سوف يصنع لهم من الماء والسكر والشاي مشروبا لذيذا. وحين انتهى من صناعة الشاي، راح يصب لهم، ويملأ فناجينهم، وبعد أن شربوه، وتذوقوه، وطعموا حلاوته، وشموا رائحته، شعروا بحب نحو الخبير، وتحلقوا حوله، يسألونه أسئلة عن العالم الذي يقع خلف جدار قريتهم، وكانت عيون الفتيان والفتيات تسطع من الدهشة، وتبدو -بفعل الشاي الأحمر الذي يشربونه- أكثر احمرارا ،وأكثر يقظة، لكن أكثر ما أدهشهم هو أن المشروب الذي صنعه الخبير لهم طرد النوم من عيونهم، حتى إنهم ليلتها راحوا يرقصون، ويغنون، ويواصلون السمر على ضوء النيران المشتعلة، وأضواء الفوانيس. وعند قرابة الفجر، ناموا نوما عميقا، وظلوا نائمين.

وعندما صحوا عصرا من نومهم، وجدوا الكنز قد تبخّر، واختفى، وأما الخبير فوجدوه مذبوحا، وغارقا وسط بركة من الدّم.

مقالات

"بلقيس" لا تطفئ الشموع

ربّما زهرة العمر قضيتها في قناة "بلقيس"، كنتُ قادماً من عملٍ في وسيلة إعلام رسمية ممتلئة بالمحاذير إلى وسيلة شعارها "صوت كل اليمنيين"، كان ذلك بمثابة انتقال بين عالَمين.

مقالات

هذه البصمة وهذا الإنجاز

بعد غياب دام أكثر من عشر سنين، عن مدينة الطفولة والتعليم الأساسي؛ مدينة تعز، وأثناء طوافي القصير خلال إجازة العيد في أحياء مدينة تعز، شد انتباهي واستوقفني هذا الصرح العلمي، الذي ينتصب في "مديرية المظفر"؛ الذي اُستكمل إنشاؤه وتجهيزه مؤخرا؛ وهو عبارة عن "مدرسة أساسية وثانوية للصم والبكم

مقالات

عن الكتابة

تاريخ الكتابة هو محاولات مستمرة لتجاوز الهوة الفاصلة بين الإحساس الحقيقي والنص المكتوب. كل المشاعر الحقيقية هي في الواقع غير قابلة للترجمة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.