مقالات

مجلس القيادة.. صراع نفوذ إقليمي يصل محطته النهائية

17/09/2025, 10:17:08

حين نضع مجلس القيادة الرئاسي تحت المجهر بعد سنوات من ولادته، تتكشف صورة مسرحية طويلة كُتبت فصولها في الرياض وأبوظبي، وعُرضت على خشبة اليمن.

الهدف المُعلن كان تجاوز مرحلة الرئيس هادي، لكن النتيجة تمثلت في ولادة كيان هجين، بلا إعلان دستوري ولا لائحة تنظيمية داخلية للصلاحيات أو آليات لاتخاذ القرار والاجتماعات الدورية وغيرها من الأدوات التنظيمية والرقابية، وبدون سقف زمني، وكأنه وجد ليستمر إلى الأبد، وبلا إجماع وطني، سرعان ما تحول إلى ساحة صراع نفوذ بين قوتين إقليميتين.

رشاد العليمي بدا رئيسًا شكليًا، محاصرًا بين عدن والرياض، يعتمد على دعم سعودي لا يكفي لبناء سلطة حقيقية، ويجد نفسه في مواجهة أعضاء يتحرك كل منهم وفق أجندة إقليمية خاصة.

إلا أن دوره لم يقتصر على العجز فحسب، بل ساهم أيضًا في تفاقم الخلافات بتردده في حسم القضايا الجوهرية، وتردده بين محاولة إرضاء الرياض من جهة، والتنازل لشركائه من جهة أخرى.

هذا التذبذب جعل قراراته متناقضة، وعزز شعور بقية الأعضاء بأنهم قادرون على تجاوز صلاحياته، مما عمّق الانقسام بدل أن يوحد الصف.

في المقابل، ظهر عيدروس الزبيدي كزعيم انفصالي متسلح بغطاء إماراتي، يتصرف كما لو أنه يقود دولة مستقلة داخل الدولة، ويصدر قرارات أحادية تعكس طموح الانفصال، وبنى شبكة واسعة من المصالح المالية والعسكرية والأمنية. استند إلى اتكاء مناطقي واضح، وسيطر على مساحات واسعة من الأراضي والمؤسسات المالية، مستخدمًا المجلس الانتقالي كرافعة لمشروعه المحلي وللأجندة الإماراتية في اليمن.

طارق صالح عزز نفوذه في الساحل الغربي، متمسكًا برفض الدمج العسكري، وساعيا إلى إعادة إنتاج موقع عائلته السياسي، في تناقض مع محاولات العليمي إظهار وحدة القرار. وقدّم نفسه بديلاً محتملاً للقوى الشمالية الحزبية والاجتماعية والعسكرية، مستندًا إلى تحالفات مع السلفيين وعدد من القيادات الحزبية في الشمال والجنوب، ليبني لنفسه صورة لاعب يتجاوز إطار الساحل الغربي إلى طموح وطني أوسع، مع طموح سياسي وعسكري يدوم في المستقبل، مستندًا أيضًا إلى الدعم المالي والعسكري والسياسي الإماراتي.

عبد الرحمن المحرمي، القادم من خارج القوى التقليدية الحاكمة وذو مرجعية سلفية موالية للإمارات، تمكن من بناء نفوذ عسكري واسع وشبكة من الاستثمارات المالية الضخمة بدعم مالي إماراتي، من دون غطاء سياسي واضح. لكنه يقدم نفسه راعيًا للسلفية الجامية في اليمن، التي انتشرت مراكزها وقواتها من البقع والملاحيظ إلى المهرة وشبوة ومأرب وحضرموت وعدن والساحل، وشدد قبضته على قوات العمالقة وجعلها أداة نفوذ عسكري مباشر، ما خلق ثنائية عسكرية موازية تزيد من ضعف السلطة المركزية.

وفي الشرق، برز فرج البحسني كرجل ضعيف في حضرموت، جلبته السعودية ثم غيّر ولاءه للإمارات وانضم إلى الانتقالي. وهو شخصية مثيرة للجدل بسبب خلافات داخلية تتعلق بسوء إدارته أثناء توليه مسؤوليات محافظ حضرموت، وتُهم بالفساد.

ورغم محاولاته المستمرة لتقديم نفسه ممثلاً لحضرموت، فقد فشل في ذلك، ومع ذلك رفع لواء حضرموت مطالبًا بحصة أكبر من مواردها النفطية، متهمًا العليمي بتهميشه، بينما تمسك سلطان العرادة بمأرب باعتبارها آخر معاقل الشرعية النفطية والعسكرية، في صراع غير معلن مع بقية الأعضاء حول من يمثل "الثقل الشرعي" الحقيقي. أما عبد الله العليمي فقد بقي مهمشًا بلا تأثير، ضائعًا بين الولاء للرياض والتهميش من شركائه، فيما ظل عثمان مجلي مجرد حضور رمزي لا يتجاوز الإطار الشكلي، ليكتمل مشهد مجلس تتنازعه تناقضات الداخل وضغوط الخارج.

العليمي حاول أن يحتوي الزبيدي، فاصطحبه معه إلى العواصم وجلسات مجلس الأمن، لكن النتيجة جاءت عكسية: الزبيدي خرج للعالم شريكًا مساويًا، فازدادت ازدواجية المشهد وضاعت هيبة الرئاسة.

القرارات التي صدرت في الظل، بعضها أُعلن وبعضها أُخفي، كانت دليلًا على واقع يُدار بالضغوط لا بالمؤسسات. هكذا صار المجلس أقرب إلى تحالف مراكز نفوذ تتقاسم الغنائم منه إلى قيادة دولة.

الحكومة تحولت إلى واجهة ثانوية، وزراؤها فقدوا سلطاتهم، والانتقالي أقام في عدن دولة داخل الدولة، يسيطر على النقابات والإعلام والأمن. البرلمان غاب تمامًا، فلم يعد له دور رقابي ولا تشريعي. وفي الشارع تصاعد الغضب، فالمعيشة تنهار والعملة تتدهور، بينما المواطن يرى السلطة تتنازع على الموارد لا على مصالحه.

لكن الوجه الأكثر قسوة للصراع تجلى في حياة اليمنيين اليومية.
فوفق تقارير الأمم المتحدة لعام 2024، هناك أكثر من 21 مليون يمني يحتاجون إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية، بينهم ما يقارب 12 مليون طفل. نحو 4.5 مليون شخص نزحوا داخليًا منذ اندلاع الحرب. أكثر من 17 مليون يمني يعانون من انعدام الأمن الغذائي، فيما يواجه 6 ملايين خطر المجاعة الحادة.

وفي القطاع الصحي، تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن نصف المرافق الطبية خارج الخدمة. وعلق برنامج الغذاء العالمي قائلًا: "اليمن يظل واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حيث ينام ملايين الناس جائعين كل ليلة".

أما اليونيسف فقد حذّرت بوضوح: "طفل يمني واحد على الأقل يموت كل عشر دقائق بسبب أمراض يمكن الوقاية منها".

هذه الأرقام تترجم إلى مشاهد يومية: أمهات يقفن في طوابير طويلة من أجل كيس دقيق، أطفال ينامون بلا وجبة، وشباب عاطلون فقدوا الأمل.
وهنا يصبح الفشل السياسي انعكاسًا مباشرًا في بطون خاوية وأزمات لا تنتهي.

وإذا قارنا هذه التجربة بتجارب عربية مشابهة، نجد نمطًا متكررًا: مجلس السيادة في السودان تعثّر لأنه بُني على توازن هش بين المدنيين والعسكر. مجلس الحكم في العراق بعد 2003 فشل لأنه قام على محاصصة طائفية زادت الانقسام.

وفي ليبيا بعد القذافي، تفككت المجالس الانتقالية تحت ضغط المليشيات. حتى في اليمن نفسها، مجلس قيادة الثورة بعد 1962 ومجلس الرئاسة بعد الوحدة 1990 تحوّلا إلى مسارح صراع انتهت بانفراد طرف واحد بالسلطة.

كلها شواهد تؤكد أن المجالس التي تولد من رحم التوازنات الخارجية أو المحاصصات الداخلية، محكوم عليها بالعجز.

البعد الدولي يضيف طبقة أخرى من التعقيد.
اليمن خاضع للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يجعله تحت وصاية مجلس الأمن. لكن القوى الكبرى فضّلت ترك الملف بيد الرياض وأبوظبي.

الولايات المتحدة رأت في السعودية ضامنًا لمصالحها في أمن الطاقة والبحر الأحمر. بريطانيا تعاملت مع الرياض كحليف استراتيجي تقليدي. فرنسا مالت إلى شراكة اقتصادية وعسكرية مع الإمارات. روسيا اكتفت بدور الموازن، تارة تدعم قرارات وتارة تلوّح بالفيتو.

وهكذا منح المجتمع الدولي تفويضًا كاملًا لدولتين إقليميتين متورطتين أصلًا في النزاع.

الأمم المتحدة من جانبها بدت عاجزة.
جمال بنعمر حاول هندسة تسوية عبر مؤتمر الحوار، لكنه اصطدم بالرفض والتدخلات. إسماعيل ولد الشيخ جاء بمبادرات كويتية، فاتهم بالانحياز وفشل. مارتن غريفيث وقّع اتفاق ستوكهولم، لكنه بقي حبرًا على ورق. هانس غروندبرغ اكتفى باتصالات باردة عاجزًا عن جمع الأطراف.
فشل المبعوثين كان انعكاسًا لعجز بنيوي: المنظمة سلمت الملف للإقليم بدل أن تحافظ على دورها كضامن محايد.

الحلول لا تكمن في مسكنات مؤقتة أو وعود فضفاضة، بل في خطوات متكاملة تبدأ من الداخل وتجد دعمًا من الخارج.
فلا بد أولًا من صياغة لائحة تنظيمية مُلزمة تحدد بوضوح صلاحيات الرئيس وأعضاء المجلس، وتمنع تداخل السلطات الذي جعل المجلس ساحة للفوضى.
وإلى جانب ذلك، يظل دمج القوات العسكرية والأمنية تحت وزارتي الدفاع والداخلية ضرورة لا يمكن القفز عليها، إذ لا يمكن أن تبقى البلاد موزعة بين جيوش موازية وولاءات متضاربة.

كما أن إعادة الاعتبار للمؤسسات الدستورية بات أمرًا ملحًا.
فالبرلمان والقضاء ينبغي أن يعودا إلى ممارسة دورهما الطبيعي كسلطتين رقابية وتشريعية، قادرتين على محاسبة المجلس والحكومة وإعادة التوازن إلى معادلة السلطة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن إدارة الموارد من نفط وغاز وموانئ عبر البنك المركزي والمؤسسات الرسمية، مع رقابة شفافة من المجتمع الدولي، تمثل خطوة أساسية لاستعادة الثقة.

ولا يمكن لأي إصلاح أن يكتمل من دون إشراك القوى السياسية والمجتمع المدني في صياغة السياسات الكبرى.
فاحتكار القرار بين ثمانية أشخاص مدعومين من الخارج لم ينتج سوى عجز متراكم وانقسامات متجددة.
هنا يبرز أيضًا دور الضغط الدولي، لكن لا باعتباره تفويضًا مطلقًا للسعودية والإمارات، بل كرقابة متوازنة تُعيد الملف اليمني إلى إطار الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

وأخيرًا، فإن أي تسوية سياسية لا بد أن تقترن بخطة إنسانية عاجلة توفر الغذاء والدواء والخدمات الأساسية، وتمنح المواطنين شعورًا بأن السلام ليس مجرد تفاهمات نُخب، بل تحسن ملموس في حياتهم اليومية.

ما حدث خلال الأعوام الماضية أثبت فشل فكرة الإدارة الجماعية والعمل من خارج المؤسسات الدستورية الحاكمة لأي عملية انتقالية، وأظهر بوضوح غياب خطة زمنية محددة لعمل المجلس ولائحة صلاحيات واضحة، وعدم تفعيل آليات الرقابة التشريعية.

كما استمرت سيطرة المليشيات على الأرض، ومنعت المجلس والمؤسسات الدستورية والحكومية من العمل داخل اليمن، بينما اكتفت الأطراف الدولية بالتفرج على الصراعات بين أعضائه دون إيجاد مرجعية حاكمة للخلافات.

هذا وحده يؤكد أن من صمم المجلس كان يدرك أنه محكوم بالفشل منذ البداية، لأنه أشبه بحمل خارج الرحم.

وجود مجلس القيادة في ذاته أصبح تعبيرًا عن فشل السعودية والمجتمع الدولي في إدارة الأزمة اليمنية، وهروبًا من استحقاقات استعادة الدولة اليمنية وفق مرجعيات التوافق الوطني لا وفق احتياجات الخارج وخططه وأطماعه في اليمن.

إن إيجاد مجلس غير منسجم لم يكن سوى وسيلة للتنصل من التزامات سياسية وأخلاقية، واستمرارًا لاستخدام اليمن كساحة خلفية للصراعات البينية.

والرياض وشركاؤها الدوليون والإقليميون يجدون أنفسهم اليوم أمام سؤال مصيري:

هل بات من الواضح أنه لا بد من انتزاع الملف اليمني من الرياض وأبوظبي وإيجاد صيغة يمنية خالصة بآليات دعم ورقابة محلية ودولية؟

مثل هذه الصيغة ينبغي أن تقود حركة مصالحة داخلية تنجم عنها عملية دمج حقيقية للتشكيلات العسكرية والأمنية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة وفق نظم الحوكمة والشفافية، مع إجبار الأطراف المختلفة على العمل سويًا أو إدراجها ضمن القوى المعرقلة والخاضعة للعقوبات الدولية.

والثابت أن المجلس يعيش مرحلة الموت السريري. السؤال في الأخير: هل سيتم إطلاق رصاصة الرحمة على المجلس أم إنه ما زال هناك أمل في الإصلاح؟ وهو ما لا يمكن الرهان عليه.

مقالات

أزمة مجلس القيادة الرئاسي في اليمن وانعكاساتها السياسية

تشهد الساحة اليمنية منذ أسابيع تصاعدًا ملحوظًا في حدة الخلافات داخل مجلس القيادة الرئاسي، الذي شُكّل في أبريل 2022 بدعم سعودي–إماراتي، ليكون مظلة سياسية وعسكرية لإدارة المرحلة الانتقالية ومواجهة التحديات الأمنية والعسكرية، غير أن تضارب الأجندات الإقليمية وتباين مصالح القوى اليمنية المشاركة سرعان ما انعكس على أدائه، لتتحول مؤخرًا إلى أزمة تهدد تماسك المجلس نفسه.

مقالات

ثلاثُ ليالٍ بقيتُ ضيفًا على جُنودِ المظلّات

كنتُ صباح كلّ يومٍ أذهب إلى الكليّة الحربيّة لأداء امتحانات القبول، وقبل إعلان النتائج بيومين كان المبلغُ الذي جئتُ به من الحُديدة قد تسرَّبَ من جيوبي. حتّى إنني في صباحِ اليومِ الذي ذهبتُ فيه لمعرفةِ النتيجة، ذهبتُ وأنا بلا عشاءٍ ولا صَبوح.

مقالات

الإمامة هي المشكلة والجمهورية هي الحل

قديماً، في زمن كل الحروب: حروب العرب والإسلام والصليبيين والمغول والتتار وغيرهم، كان المنتصر فيها هو من يكتب التاريخ، وتصبح جرائمه وانتهاكاته وحتى مذابحه ملاحم وبطولات وأمجاداً يورِّثها لمن بعده ومن يليه ولأحفاده بعده، ولم تكن هناك رواياتٌ مغايرة لما جرى إلاَّ لماماً ونادراً، طالما تعرَّض أصحابها لضرب الأعناق وجزِّ الرؤوس وهدم البيوت وحرق الكُتب ومحو كل أثرٍ لأصحابها، ولا داعيَ لذكر المزيد.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.