مقالات
لماذا هاجمت جماعة الحوثي المبعوث الأممي غروندبرغ؟
- خلاصة سريعة:
ما الذي حدث؟ غروندبرغ قدّم إحاطة لمجلس الأمن انتقد فيها تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر وإصدارهم عملات جديدة (50 ريالاً معدنية و200 ريال ورقية)، واعتبرها خطوات أحادية تُعمّق الانقسام النقدي والاقتصادي، ودعا لوقف الهجمات البحرية فوراً (بيانات مكتب المبعوث وملف اليمن بمجلس الأمن).
فماذا كان رد الحوثيين؟ عبر وزارة خارجيتهم غير المعترف بها اتهمته بالانحياز وهددوا بقطع التواصل معه، لأنه – بزعمهم – تجاهل “أسباب التصعيد” وربط الهجمات بدعم غزة، وانتقدوه لتثمينه إجراءات حكومة الشرعية النقدية (بيان الحوثيين بصنعاء).
فهل يستطيعون “إنهاء مهمته”؟ بالطبع لا، حيث إن تعيين أو إنهاء مهمة المبعوث لا يتم إلا بقرار الأمين العام للأمم المتحدة وبتفويض من مجلس الأمن الدولي، ولكن يمكن للحوثيين رفض التعامل معه وتعطيل وساطته داخل مناطق سيطرتهم، لكنهم لا يملكون قانونياً أو بروتوكولياً إنهاء ولايته (الأطر المؤسسية للأمم المتحدة وإنذارات مجلس الأمن الأخيرة).
-أولاً: لماذا أغضبتهم إحاطة غروندبرغ الأخيرة؟
يمكن تقسيم ذلك إلى عدة بنود كما يلي:
1. الملف الاقتصادي: غروندبرغ وصف سكّ وإصدار العملة المعدنية (فئة 50 ريالاً) وطباعة فئة "200 ريال الورقية" بأنه تصعيد أحادي الجانب يُفاقم تجزئة الريال ويُحدث انقساماً نقدياً وسيُصعّب من توحيد المؤسسات المالية لاحقاً. إلا أن الحوثيين اعتبروا ذلك “انحيازاً” وتجاهلاً لـ“حلّ أزمة السيولة” (بيان مكتب المبعوث، تحليلات Sana’a Center وغيرها من المصادر حول حرب العملة ومخاطر الانقسام النقدي).
2. الملف البحري وتهديد الملاحة: إحاطة المبعوث هانس غروندبرغ وبيان الأمانة العامة أدانا استئناف الهجمات على السفن والتسبّب بضحايا وغرق سفن تجارية مثل ماجيك سيز وإيترنيتي سي وغيرها، مع دعوةٍ صريحة للتوقف عن استهداف السفن والممرات البحرية. لكن الحوثيين رأوا ذلك “قراءة غير دقيقة” لأنها - بحسب سرديتهم - ردٌّ على الحرب على غزة (بيان الأمانة العامة للأمم المتحدة بشأن البحر الأحمر).
3. إبراز إجراءات الحكومة الشرعية: تضمنت إحاطة المبعوث الأممي الإشارة الإيجابية إلى خطوات البنك المركزي في عدن لتحسين سعر الصرف، واعتُبرت هذه الإشارات لدى جماعة الحوثي “انحيازاً” في معركة الشرعية الاقتصادية (تقارير South24 وغيرها).
الخلاصة التحليلية: الحوثيون يتوجّسون من أي سرد دولي يُحمّلهم كلفة التصعيد البحري أو تفتيت السياسة النقدية وزعزعة الاقتصاد اليمني؛ فذلك يُضعف حجتهم السياسية ويعرّضهم لمزيد من العُزلة والعقوبات والقيود على التعاملات المالية (تحليلات The Majalla).
-ثانياً: ما طبيعة “العمليات” في البحر الأحمر التي يرفض الحوثيون توصيفها؟
منذ أواخر 2023 نفّذ الحوثيون عشرات الهجمات على سفن تجارية أو مرتبطة بإسرائيل وحلفائها، مع فترات تهدئة متقطّعة ثم عودةٍ للتصعيد في يوليو/تموز 2025 شملت إغراق سفن كـماجيك سيز وإيترنيتي سي، وسقوط ضحايا واختطاف طواقم سفن.
وعلى هذا التهديد المتصاعد، قامت الأمم المتحدة بوصفها بأنه تهديد لحرية الملاحة الدولية ومخالفة لقرارات مجلس الأمن، فيما يقدّمها الحوثيون كـ“ضغطٍ لرفع الحصار عن غزة”. كذلك أسفرت عن ضبط شحنات سلاح متطورة مُهرّبة للمليشيات الحوثية عبر البحر الأحمر وخليج عدن (تقارير South24 وبيان مجلس الأمن وبيانات المقاومة الوطنية وغيرها).
-ثالثاً: هل أصدر الحوثيون عملات جديدة… وهل تُجزّئ الاقتصاد؟
نعم. خلال 2024–2025 أُعلن عن عملات معدنية (100 ثم 50 ريالاً)، ولاحقاً ورقية 200 ريال في مناطقهم، ما فجّر نزاعاً حاداً مع بنك عدن الذي اعتبرها “غير قانونية”.
يرى الخبراء المستقلون أن هذه الخطوة تُعمّق ازدواج النقد وتُصعّب توحيد السياسة النقدية مستقبلاً. ومن جهته تبنّى غروندبرغ قراءةً قريبة من هذا الخط (Sana’a Center، South24).
-رابعاً: هل يستطيع الحوثيون فعلاً “إنهاء مهمّة” المبعوث؟
قانونياً: لا يمكنهم ذلك، فالولاية تُمنح وتُسحب عبر الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
واقعياً: يستطيعون تعطيل الوصول واللقاءات ومنع التحرك في مناطقهم، ما يُقزّم قدرة الوساطة لكنه لا يُنهي المهمة أممياً (بيانات مجلس الأمن وجدول أعمال مكتب المبعوث).
-خامساً: مقارنة تاريخية سريعة - ماذا فعل المبعوثون السابقون؟
1. جمال بن عمر (2012–2015): رعى الحوار الوطني ثم استقال بعد انهيار التسوية واندلاع الحرب في 2015 بعد انقلاب الحوثيين وسيطرتهم على صنعاء.
الدرس: الحوار بلا ضمانات أمنية ومع غياب توافق إقليمي ومحلي حقيقي سينهار سريعاً (تقارير الأمم المتحدة عن الحوار الوطني).
2. إسماعيل ولد الشيخ (2015–2018): طرح هدناً ومسارات اقتصادية، لكن علاقته بالحوثيين انهارت حتى مُنع من دخول صنعاء في 2017.
الدرس: حياد الوسيط يتآكل إن لم تُحترم الترتيبات الاقتصادية والإنسانية (متابعات مجلس الأمن).
3. مارتن غريفيث (2018–2021): هندس اتفاق ستوكهولم (الحديدة/الأسرى)، لكنه تعثّر في التنفيذ وتماهى مع الحوثي.
الدرس: صفقات التجميد الموضعي تُنقذ موانئ لكنها تحتاج آليات تنفيذ صارمة ومراقبة حقيقية (UN، تقارير الصحافة الدولية).
4. هانس غروندبرغ (2021–الآن): دفع نحو هدنة 2022 ثم مسار “خارطة طريق” مع السعودية/عُمان، قبل أن تُقوِّضها ملفات البحر الأحمر وتجزئة النقد واحتجاز موظفي الأمم المتحدة.
الدرس: أي تقدّم سياسي هشّ ما لم يُضبط السلوك سيؤدي إلى تماهي وانهيار الأمن البحري والنقدي وعدم الاستقرار (إحاطات غروندبرغ بمجلس الأمن).
-سادساً: ما وراء الغضب الحوثي… الأسباب الخفية المحتملة
1. الخشية من كلفة دولية متصاعدة إذا ثُبِّتت سردية أن الهجمات البحرية “انتهاك للقانون الدولي” لا “نصرة لغزة” (بيان مجلس الأمن).
2. صراع الشرعية النقدية: الاعتراف الدولي بإجراءات بنك عدن مقابل تجارب بنك صنعاء النقدية، ما يهدد بنوكهم وشبكاتهم المالية (تقارير Sana’a Center).
3. تكتيك تفاوضي: التصعيد اللفظي ضد المبعوث يرفع السعر التفاوضي قبيل أي تفاهمات اقتصادية/إنسانية (قراءة South24).
-سابعاً: ماذا بعد؟ هل تهديد “إنهاء التعامل” جديّ وقابل للتنفيذ؟
قابل للتنفيذ جزئياً: نعم، عبر مقاطعة مكتبه وحرمانه من الحركة واللقاءات.
لكنها خطوة مكلفة: توسّع الفجوة مع مجلس الأمن، وتُضعف فرص الاعتراف بمطالبهم الاقتصادية، وتزيد عزلة المصارف في مناطقهم.
لذلك تميل الجماعة تاريخياً إلى “التصعيد المقيّد” ثم العودة لقنوات خلفية (The Majalla).
-ثامناً: ماذا نتعلّم من “أدوار الأمم المتحدة” في ساحاتٍ قريبة؟
سوريا: المبعوث الخاص يتحرك تحت سقف القرار 2254 (دستور/انتخابات/انتقال سياسي). النتيجة: تقدّم بطيء يتأثر بتوازنات إقليمية.
الدرس لليمن: لا بُدّ من مسار سياسي - اقتصادي متزامن (تقارير مجلس الأمن 2024–2025).
لبنان: ليس هناك مبعوث سلام بل منسّق خاص (UNSCOL) وقوات اليونيفيل.
الدرس لليمن: الأمم المتحدة تبرع في إدارة التوتر والحلول الفنية لكنها تحتاج راعياً قوياً لاتفاقات سياسية كبيرة (UNSCOL وقرار 1701).
-تاسعاً: توصيات عملية (واقعية وغير تقليدية)
1. مقايضة بحر مقابل بنك: وقف الهجمات البحرية مقابل حزمة اقتصادية متدرجة (رواتب/جمارك/ترتيبات مصرفية) برعاية أممية–خليجية.
2. آلية تنفيذ اقتصادية: لجنة فنية مزدوجة المقر (عمّان/عدن) تشرف على توحيد المقاصة والدفع الإلكتروني ومنع الازدواج النقدي خلال 9 أشهر.
3. قنوات خلفية على طريقة لبنان: اجتماعات ثلاثية دورية (الحكومة–الحوثيون–الأمم المتحدة) بكرسي مراقب لعُمان/السعودية.
- خاتمة
إن الهجوم الحوثي على غروندبرغ ليس اختلافاً تقنياً في توصيف ما يجري؛ إنّه صدامٌ على سردية الشرعية: في البحر (قانون الملاحة) وفي الجيب (شرعية النقد). تاريخ المبعوثين في اليمن يشي بأن المسارات الجزئية تنجح حين تُرفق بآلية تنفيذ وضمانات وتكامل بين السياسي - الاقتصادي - الأمني.
أما التهديد “بإنهاء التعامل” مع المبعوث، فحدّه الأقصى تعطيل الوساطة لا إسقاط الولاية.
إن أردنا سلاماً عملياً، فلنُطفئ نيران البحر وحمّى العُملة في آنٍ واحد - عندها فقط يستوي الكلام السياسي على عوده.