تقارير
سامي الحميدي.. المقاتل الذي خرج من ثلاجة الموتى دون أن تلتفت إليه الدولة
حمل البندقية حينما بدأت إشارة التنبيه تعلن بالحرب، كان حاضرًا مع أول طلقة أُطلقت في وجه مليشيا الحوثي.
ترك القلم وحمل البندقية ليقاتل ضد العدو المتربص وضد العابثين، رمى كل أحلامه وطموحاته خلفه، وذهب ليقاوم. كان حاضرًا منذ اللحظة الأولى للحرب، وكان الجندي الأول لتشكيل المقاومة الشعبية.
يروي الشاب سامي الحميدي قصته قائلًا: "خرجت أقاتل منذ الطلقة الأولى، دفاعًا عن الوطن، حينها كنت طالبًا في قسم مساحة وطرقات، تركت دراستي وذهبت لأقاتل من أجل الجمهورية".
-مقاوم في كل الجبهات: سامي بين الأزقة والنيران
لم يكتفِ سامي بأن يقاتل في جبهة واحدة، بل كان جسده وروحه متفرّقين على كل خطوط النار، حيث احتدم الصراع على قيم الجمهورية ضد مشروع السلالة التخريبي. في كل ركن من أركان تعز، حيث كانت المليشيا تختبئ، كان سامي حاضرًا، متشبثًا ببندقيته كأنه يضم الحياة نفسها، يقاتل بلا خوف من الموت؛ لأن حرية تعز كانت تنبض في قلبه نبضًا لا ينكسر.
يقول: "شاركت في الجبهات، في كل الأزقة، ولم أتخاذل يومًا عن أداء دوري في القتال".
-لحظة انفجار.. حين واجه الموت بعينه وأعادوه للحياة
كما يغرس الفلاح شجرة في الأرض لتثمر، زرعت المليشيا الموت في كل خطاها، تفشي القتل مثل جذور شجرة سوداء تعانق التراب. لم يكن هناك مكان آمن في الأرض التي عبَرتها أقدامهم، وكل خطوة كانت تحمل وعود الموت البطيء أو الفوري.
في صباح الثالث عشر من ديسمبر 2016، بينما كان سامي يقف حارسًا يقظًا على جبهة "كلابة" شرق تعز، يُراقب تحركات العدو بعينين لا تنام، وبندقية تمسكها يده بقوة كأنها امتداد لروحه، داس على لغم حقد زرعته أيادي الحوثي.
انفجر تحت قدميه، ولم يترك له إلا ذاك الألم الذي أخفى وراءه فقدان اليد والرجل، وانشقاق الرأس الذي كاد يسلبه الحياة. لكن الموت لم يُكتب له أن يكون النهاية؛ فقد عاد من بين أنيابه، أُعيد إلى الحياة كأنها هدية من قدر لم يرضَ بفقدانه.
يصف سامي تلك اللحظة قائلًا:
"كنت ممسكًا ببندقيتي، أقاتل في الصباح في جبهة كلابة، دُست على عبوة ناسفة، ثم انطفى كل شيء بداخلي. بعد الانفجار، لم أشعر بشيء".
-أعلنوا موته لكنه عاد من ثلاجة الموتى
فور انفجار العبوة، حمله أصدقاؤه على أكتافهم والدم ينزف من جسده وأطرافه ممزقة، وبروح كادت أن تغادره. لكن ما هو أقسى من الحادثة هو عدم قبوله في المستشفى تحت مبرر "عدم وجود الدعم الخارجي".
يضيف سامي: "أسعفوني إلى مستشفى الصفوة، لكن في المستشفى رفضوني، وقالوا مركز الملك سلمان وقف الدعم".
بعد رفض قبوله، لم يكن أمام صديقه إلا أن يحمله بخيبة أمل وبروح منهكة، وخرج من مركز الصفوة ومعه سامي على كتفه، والدم ينزف، محاولًا إسناد أطرافه التي لم يكن هناك أمل للتعافي منها سوى البتر. لكن ما هو مؤلم أنهم فوجئوا بإعلان الأطباء في المستشفى الآخر أنه مات.
يروي سامي قصة دخوله ثلاجة الموتى: "بعد ما رفضوا قبولي في مستشفى الصفوة، حملني واحد اسمه إبراهيم وأخذني إلى مستشفى الروضة، وهناك قالوا مات، ثم وضعوني في قصدير وأدخلوني ثلاجة الموتى وأنا كنت فاقدًا للوعي في غيبوبة".
-قلب ينبض في ثلاجة الموتى
بعد إعلان موت سامي ووضعه في ثلاجة الموتى، جاء شقيقه لزيارته. فحال الجسد الذي كان فيه سامي لم يجرؤ أحد على احتضانه، إلا ذاك الذي حملته الأم نفسها ولبث في الرحم نفسه. لم يكن هناك من يتأمل نبضات قلبه إلا شقيقه، عندما احتضنه كما لو أن الحضن يختزل الموت والحقيقة المؤجلة.
يضيف سامي: "جاء أخي ليزورني في ثلاجة الموتى، فحضنني وعرف نبضات قلبي، وتصايح مع الأطباء، ثم أخرجوني إلى العناية المركزة، وبتروا رجلي ويدي، وكانوا ينتظرون متى سأموت".
-استيقظ ليجد الحرب تنتظره على وسادة المستشفى
غدًا أو بعد غدٍ سيموت، هكذا كان الأطباء يهمسون وهم يمرّون بجانب سريره في العناية المركّزة، وكأنهم يعلنون للموت موعدًا مؤقتًا، وينتظرون دوره بصبر المتفرجين. بعد خروجه من ثلاجة الموتى، استعاد سامي وعيه على سرير المستشفى، مثقلاً بجراحه، مُكبّلًا بثقل لا يُحتمل، وعيونه محمرة كالجمر، بقيت كذلك لثمانية أشهر. يقول سامي: "أفقت من الغيبوبة وأنا فوق السرير لا أستطيع الحركة، وعيوني محمرة، وظلّت محمرة ثمانية أشهر، فقدت كذلك الشم، ورأسي كان متورمًا بشكل كبير"، يقولها بنبرة من رأى الموت ولم يُسلّم له الروح. لم يتذكر شيئًا، كأن ذاكرته انفجرت مع العبوة التي التهمت يده وساقه، سوى مشهد القتال، كأن الحرب كانت ذاكرته الوحيدة، والرصاص هو الدليل الحي على أنه ما زال حيًّا.
-ماذا جرى؟
بجسدٍ منهك، ورأسٍ يئنُّ تحت وطأة الشظايا التي استقرت فيه كما تستقر الخناجر في قلب وطنٍ جريح، فتح عينيه على وجعٍ لم يتّضح بعد، وتمتم بسؤالٍ موجوع: ماذا جرى؟ لم يكن يدرك أن الحرب التهمت جزءًا من جسده، وأن رجله ويده غابتا في انفجارٍ لم يُبقِ له سوى الروح. يقول: "أتذكّر أول ما أفقت من الغيبوبة، كنت أشوف رجلي، لا أدري أهي مبتورة أم ماذا. لم أرَ سوى الجبس. سألتهم فقالوا لي: الرجل واليد فقط فقلت -الحمد لله". قالها بتنهد الرضا، وكأن ما بقي منه يكفي ليحيا، أو يكفي ليستمر في حب تعز، يقاتل بها لا عنها، حتى لو بجسدٍ منقوص، لكنه بإيمانٍ كامل.
-بين الإهمال والتمييز
لم يكن سامي حين خرج ليقاتل ينتمي إلى فئة أو جماعة سياسية، بل خرج من أجل وطنه، لا من أجل مصلحة طرف سياسي. كان أول عضو في المقاومة الشعبية التي قادها حمود سعيد المخلافي، قاتل بشجاعة وخسر رجله ويده، لكن لم يلتفت إليه أحد. وما هو أكثر ألمًا، أنه حُرم من الصرفة اليومية للجرحى، فالأحزاب والجماعات السياسية كما العادة تهتم بمن ينتمي إليها ويقاتل باسمها، أما سامي فلم يكن بينهم، ذنبه الوحيد أنه قاتل من أجل الوطن.
لم تعره القيادة التي كان ينتمي إليها أي اهتمام، ولم يكن هناك من يدفع تكاليف علاجه، فاستدان وعانى، وقرض مبالغ كبيرة لا تزال مسجلة عليه في دفاتر الديون. في حديثه عن الإهمال والتجاهل يقول: "أُهملت كثيرًا، ولم يكن هناك من دفع عني، فقد دفعتها أنا وأخي، وكان الإخوان يوزعون صرفيات للجرحى، وكانوا يقولون لي: أنت مش معنا، أنت غيرنا".
لا شك أن سامي، ككل جريحٍ ضحى بيده ورجله في سبيل وطن، حينما يواجه وجه الإهمال، يعتصره الحزن، لكن قلبه لم ينكسر، ولم تنحنِ روحه، قاوم الحياة رغم كل جرح، رغم كل نسيان. يقول: "أنا كنت محسوباً على اللواء 170، لكن لم يتم الالتفات لي، فقد كان الأحزاب يوزعون صرفية الجرحى المنسوبين لهم فقط، وكأنني لم أقاتل مع الوطن".
ويضيف بمرارة كالرماد في صدره: "فقدت رجلي، ويدي، وتعورت عيناي، ورأسي. بقيت أسير الألم في مستشفى الروضة، ثم رحلت إلى التعاون، حيث جُرحت روحي بعملية ترقيع على حسابي، وأحلامي تُباع بالدين. الجرحى مثلنا يُهملون، الدعم لمن يحمل على كتفيه أسماء كبار، أما أنا، ومن كان مثلي، فلا نلقى إلا نسيانًا قاسيًا، هم يختارون من يُعطون، ويتركوننا نذوب في ظلال الغياب".
-بحثًا عن طرف صناعي
خرج من مستشفى الروضة، يحمل جراحًا لم تلتئم، بعد عامٍ كاملٍ من الصبر والانتظار، خاض تجربة جراحة أخرى، لكن قلبه كان يلهث وراء رجلٍ صناعية تعيد له بريق الحياة، تُقويه ليقف ويشق طريقه ببندقيته في يدٍ صامدة لا تهاب. ظل ينتظر بصيص أمل، ظل وحيدًا بين جدران الوحدة، بلا قدمٍ تسنده، ولا يدٍ تحميه، يفتش في الأرض البعيدة عن شمسٍ تشرق على جراحه.
سافر إلى السودان، على أجنحة حلم رُسمت بأحلام الملك سلمان، لكن المستشفى هناك كان كصحراء جرداء، بلا روح، بلا كادرٍ يشفي أو يُداوي، بل كانت النهاية بترًا لما تبقى من قدمه. يقول سامي: "بعد العملية في مستشفى التعاون، سافرت إلى السودان على حساب الملك سلمان، لكن للأسف لم أحصل على علاج، لا يوجد شيء هناك، مستشفى لكن بلا كادر، بتروا بقيّة قدمي، استدعينا دكتور واستشاريين وبتروا رجلي هناك. استفدت من السودان فقط أنني غيرت جو".
-في المنفى لا توجد دولة تمثلك
ليست الآلام ولا الجراح وحدها ما يغرس الخيبة في القلب، بل غياب الدولة، ذلك الوهم الضائع الذي تلهث خلفه في الغربة، هو من يحيل الأمل إلى رمادٍ بارد. سامي، الذي نذر روحه للوطن، وجد نفسه وحيدًا في مهجده الجديد، لا وطن ينحني له، ولا دولة ترفعه في محنه.
ذهب إلى السفارة اليمنية في الخرطوم، طالبًا يديًا تواسيه، طرفًا صناعيًا يخفف عنه ألم القدم التي أبت أن تليق به، لكنه لم يجد إلا جدار الصمت واللامبالاة. يقول سامي: "في مركز الملك سلمان صنعوا لي طرفًا صناعيًا لرجلي، لكنه لم يناسبني، كان الألم يلسعني كلما تحركت. ثم توجهت إلى السفارة اليمنية أطالب بالعلاج، لكنهم قالوا لي: لا توجد لدينا دولة. جلست ثلاثة أيام في السفارة في الخرطوم، نمت هناك بلا أمل، بلا فائدة".
حينما تُغلَق كل الأبواب في وجه المرء، ويُترك وحيدًا وسط آلامه وجراحه، يصبح نسيج العنكبوت، إن وُجد، منقذًا يخرجه من بحر المتاعب، وقارب نجاة يحمل أملًا ضعيفًا لكنه ثمين. هكذا كان الصليب الأحمر لسامي؛ هدية من الله وسط محنته. يقول سامي:
"ذهبت إلى مركز الأطراف الصناعية، وكان هناك الصليب الأحمر، صنع لي طرفًا صناعيًا بسيطًا ورخيصًا، لكني استطعت المشي به. ظللت أستخدمه سنة كاملة في السودان، ثم عدت إلى اليمن، وهناك انتهى الطرف الصناعي الذي صنعه لي الصليب الأحمر".
-حين تخذلك الدولة، يصبح نسيج العنكبوت هو قارب النجاة الوحيد
عاد سامي إلى وطنه، لكن الطرف الصناعي انتهى، ولم يكن لديه من يسنده. فالمعاناة استمرت، لكنه لم يستسلم، بل حاول، وتدين مالًا، وسافر إلى الهند، واشترى طرفًا جديدًا على حسابه الخاص. لكنه ظلّ يعيش مع الألم، إذ يحتاج الطرف إلى رعاية مستمرة، وسيلكون خاص، لم يستطع توفيره بالكامل، فتدهور الطرف وأوجع قدميه.
يقول سامي: "سافرت إلى الهند، اشتريت طرفًا صناعيًا على حسابي ورجعت إلى اليمن، لكن الطرف يحتاج إلى سيلكون ومفاصل ورعاية، ولم أجد من يقدم لي شيئًا. اشتريت سيلكونًا، لكنه انتهى سريعًا، وبدأ الألم يشتد في قدمي حتى الآن".
-اختار طريق الخدمة لوطنه
قبل أن تسرق الحرب أيامه، كان سامي طالبًا في كلية التربية بقسم المساحة والطرقات، يحلم برسم طرقٍ تربط بين أرضه وأحلامه. لكن حين انقلبت الدنيا، وأقبلت مليشيات الحوثي، ترك الكتب ورفع السلاح، ليقاتل من أجل وطنٍ ضاع بين شظايا الحروب.
عاد من الهند محملاً بجراحه، لكنه لم يستسلم، استأنف دراسته التي قطعتها الحرب، وأكمل قسم المساحة والطرق، ثم قرر أن يمضي في درب آخر، درب ينقذ فيه وطنه من جراحه. فاختار الطب، وبدل أن يرسم الطرق على الأرض، صار يرسم دروب الأمل في قلوب المرضى، ليقاوم الفساد والخذلان الذي يعم مستشفيات بلاده.
يقول سامي: "قبل الحادثة كنت أدرس مساحة وطرقات، وقرحت الحرب، وذهبت لأقاتل، وبعدها وبعد حادثة الانفجار أكملت دراسة مساحة وطرقات، وأردت أن أدرس تخصصًا آخر أستطيع أن أخدم به الوطن، ودخلت مجال الطب، نظرًا للوضع الحالي للفساد قررت أن أدخل مجال الطب من أجل خدمة الوطن".
-معاناة سامي مع الدراسة
بعد أن أنهى دراسة المساحة والطرق، قرر سامي أن يدخل عالم الطب، معلنًا في قلبه عزيمة لا تنكسر، حين سمع عن عفو للجرحى من رسوم الجامعات. لكنه اصطدم بحقيقة مُرة، فقد كان العفو مجرد وهم، ومكتبه الجامعي مجرد بوابة مغلقة أمامه.
ذهب للتسجيل في جامعة العطاء، دفع رسوم التسجيل، وقال: "أنا جريح"، لكن لا صوت يجيب، ولا رحمة تُرى. وعندما جاء امتحان المستوى الأول، أخرجوه من القاعة، بلا رحمة، بحجة عدم دفع الرسوم.
يقول سامي: "الآن أنا أدرس صيدلة، مستوى خامس، بعد عودتي من الهند وتزويجي، سمعت المحافظ يعلن إعفاء الجرحى من رسوم الدراسة في الجامعات الخاصة والحكومية، ذهبت للتسجيل في جامعة العطاء ودفعت 25000 كرسوم تسجيل، قلت لهم إنني جريح، لكنهم لم يعفوني".
ويضيف: "أخرجوني من قاعة الامتحان في المستوى الأول لأنني لم أدفع رسوم الدراسة. بعد أن أخرجوني، عدت إلى البيت واتصلت بالرابطة لكن دون جدوى".
يتابع: "حاولت الدخول للامتحان في اليوم التالي، رفضوا، وبعد إلحاح دخلت، لكني لم أستطع دفع الرسوم حتى اليوم وما زال الدين مسجلًا عليَّ".
-تجرد من زينته ليدخل بوابة العلم
من أجل أن يستطيع الدخول إلى الجامعة، اضطر سامي ألا يتزين كبقية الطلاب، يذهب بثياب القتال، يترك بندقيته خارجًا ويدخل ليكمل دراسته. كان يعاني كثيرًا؛ لأنه لا يمتلك المال لدفع رسوم الجامعة. وعندما ذهب إلى المحافظ، أعطاه مذكرة غير مقبولة في الجامعة؛ لأنهم يريدون المال وليس مذكرات.
يقول سامي: "إن لبست بنطلون وتزينت، يخرجوني ويقولون إنني غني، لذلك ألبس قميصي وأذهب لأتمكن من دخول الامتحان. قلت لمالك الجامعة إنني جريح ولا أمتلك المال، أعطيته أوراق رابطة الجرحى ومذكرة من المحافظ، لكن الجامعة رفضتها وقالوا يريدون فلوس. قالوا إذا المحافظ بيعطيك، يعطيك الرسوم وليس المذكرة".
ويضيف: "كانت معي بدلات من الهند، والله تركتهم في الدولاب ولم ألبسهم؛ لأنهم يقولون هذا معه فلوس، واضطررت لتركهم من أجل الدراسة، يقولون عني صعلوك".
-انهيار نفسي
إزاء ما يواجهه سامي في دراسته، تكسرت أحلامه وتهاوت قواه، حتى بات الغياب والابتعاد سبيله للهروب من ضغوط لا تنتهي. ورغم إصراره، قُدّر له أن يُحرَم من حقه في الاختبارات، وطُلب منه أن يغير تخصصه ليستطيع دفع الرسوم.
يقول سامي: "ذهبت إلى المحافظ أبحث عن أمل، فأعطاني مذكرات لا تقبلها الجامعة، وجهي كان أكثر قبولاً منها، قال لي رئيس الجامعة: إذا المحافظ يحبك سيدفع الرسوم وليس المذكرات".
ثم أُجبر على تغيير تخصصه:
"قالوا لي: غيّر تخصصك لتقل الرسوم".
ويضيف قائلًا: "الآن سأتعثر في الشهادة لأنني لم أدفع رسوم، خرجوني من الاختبارات، وطردوني من الجامعة لأنني لم أستطع دفع الرسوم، حتى أصبحت نفسيتي مدمّرة من الدراسة، وأضطر للغياب من أجل الرسوم، وأختبر اختبارات، أعاني كثيرًا من الدراسة".
ويتابع سامي بصوت يملؤه الحزن: "الآن سأتعثر في الشهادة؛ لأنني لم أدفع الرسوم، طردوني من الاختبارات، ومن الجامعة كلها؛ لأنني لم أستطع الدفع، وصار قلبي محطمًا، وأضطر أغيّب عن الدراسة، وأمتحن في ظروف صعبة، أعاني كثيرًا".
رغم أن سامي فقد يده ورجله ويتألم، إلا أنه لا يكل ولا يمل، يعمل سائق شاحنة برجل واحدة ويد واحدة، يجاهد من أجل لقمة عيشه، ومن أجل أن يستمر في دراسته.
يقول سامي: "أعمل سائق شاحنة برجل واحدة ويد واحدة لأستمر في الحياة وأكمل تعليمي، ورغم جراحي، إذا حدث أي هجوم في الجبهات، آخذ بندقيتي وأذهب لأقاتل، لا زلت أقاتل حتى الآن".
هو ليس فقط جريحًا، بل نازحٌ أيضًا، فقد دُمّر منزله في تعز على يد مليشيات الحوثي، وترحّل اليوم حاملاً معاناته بين أنقاض وطنه: "أنا من التعزية، ونازح هنا، ومنزلي مدمر فجرته مليشيات الحوثي".
-ديون الجرح وألم الطرف المنتهي
عندما جُرح سامي، لم تدفع عنه تكاليف العلاج أي جهة، ولا توجد دولة تدفع عنه، فقط تسلف وتديّن، وما زالت مسجلة عليه في دفاتر الديون حتى الآن.
يقول سامي: "عليَّ ديون مراكمة مقدارها 24 ألف دولار تدينتها وتعالجت بها".
سامي الآن بلا طرف صناعي ولا يمتلك مالاً لسداد رسوم الجامعة.
يضيف في حديثه: "أنا الآن مضغوط جدًا، أدرس، وأختبر، أشتغل، وأسوي كل شيء، والآن طرفي الصناعي انتهى، ولا أمتلك قيمته، الآن يؤلمني قدمي، وطرفي الصناعي منتهي".
ولأنه طالب بحقوقه، تعرّض سامي وزملاؤه الجرحى للاعتداء أمام مبنى المحافظة. اتُهموا بالعمالة والخيانة، وزُجّ بهم في السجن. ظل سامي صامتًا، رغم كل ما مر به، رفض أن يكتب أو يصور قصته، خشية أن يسمع من في مناطق سيطرة الحوثي كيف تعامل الدولة الجرحى، وأن يستخدموا هذا ضد الوطن.
يقول سامي: "رفضت أن أصور فيديو أو أكتب قصتي؛ لأن معنا ناس عند الحوثيين، سيقولون إن الدولة تخلت عنا، وأخشى أن لا يعودوا إلى صف الوطن، لم أرد أن أنقل صورة سيئة عن الدولة".
ويضيف: "اعتدوا علينا لأنني طالبت بحقوقي وكتبت شكوى، وفي أثناء كتابتي لها، هاجمتنا الشرطة العسكرية، وضباط وأفراد أطلقوا النار علينا، وأخذونا إلى السجن، واتهمونا بالعمالة، وكسروا هواتفنا أنا وأصدقائي الجرحى".
-ليس كل من طالب بحقه خائنًا
ليس كل من طالب بحقه خائنًا، بل هو صوت يصرخ في وجه الظلم، ينادي وينتزع حقه المهدور، بطل قاتل منذ الطلقة الأولى، يحمل جراحه كدرع لا ينكسر. بدل أن يفرغوا غضبهم على العدو، وجّهوا سهامهم نحو الأبطال، الجرحى، محاربونا الذين قدّموا الدم والروح.
يقول سامي: "أنا قاتلت منذ البداية، وما زلت في الجبهات، لكنهم اعتدوا علينا، طاردونا، وسجنونا، واتهمونا بالعمالة، فقط لأننا طلبنا حقنا".
اليوم، سامي الرجل الذي ضحى بنفسه من أجل وطنه، يعيش بلا حقوق، بلا أدنى مقومات الحياة. طرفه الصناعي انتهى، لا بديل له يمشي عليه، يمشي بألم لا يفارقه، وروح منهكة تتعثر في دراسته بسبب الرسوم التي لم يستطع دفعها. هو رمز الصمود، رغم كل الجراح والخذلان، ما زال صامدًا كصخرة في وجه عواصف الوطن الذي لا يرحم.