مقالات
للورقة الباذخ بالشجاعة في جبال السلفية
أعتقدُ جازمًا أن طبيب الأسنان قد فخخ ضرسي تمامًا ببقايا تلك الهدايا التي أرسلها القذافي كعطيةٍ نفطيةٍ كريمة، ليجود بالحياة على من تبقّى بيدٍ واحدة أو بقايا أقدام، وهو يحتفل بأن النبض لا يزال فيه.
لنعد إلى موضوعنا، فضرسي القادح موتًا منذ أسبوع لم ينم، حتى إن القلب تحوَّل من يساره إليه، وأخالني متُّ في ليالٍ عديدة جرى فيها ذلك التفجير المهول.
يا الله، كيف قاومتُ ذلك التهديد الكبير، وهم -أعني الطبيب ومساعِدتَيه- يحفرون مكانًا جيدًا لزرع ذلك الديناميت (العطية، كما أسلفتُ) بإتقان، لينسفوا ذلك الضرس المعوَّج، الخارج عن بيت الطاعة.
وأخيرًا، اقتلعوه كما يجب: شظايا وأشلاء، بل وحتى محارمه وجيرانه من الأضراس المجاورة تأثّروا بفعل ذلك التفجير. وكمَدًا على ذلك الضرس "الصالح" الذي لم يكن يمارس غير حقه في حرية البلاء المزعومة، لينمو صادحًا - عفوًا: نائمًا - كما شاء، وما زال في نموّه، لم يبلغ الرشد بعد.
يا الله، كيف سمعتُ ذلك الانفجار وأنا مغمض العينين، كي لا أرى بعض أشلائي المجاورة تطير بفعل الضغط؟ كوني مهندسًا درستُ الفيزياء بشقَّيها: الإستاتيكي والديناميكي، وأحمالها الشاقولية وضغط السقوط أيضًا، كنتُ أترقّب طبيب الأسنان ومساعدتيه الملثمتَين بالخوف، كي لا ينجو ضرسي المسكين يومًا ويتعرّف عليهما ويقتصّ لثأر التفجير المهول.
سمعتُ التفجير، وسمعتُ صوت ضرسي القديم الملبَّس بالفضة يستنجد بالطبيب ألا يفعلها، وهو يستحضر مآسيه التي جرت له قديمًا. وها هو اليوم جريحٌ خاوٍ، وإنْ ألبسوه الفضة ليُخفوا مآسيهم الفاضحة. لقد صار ضرسي الملبس بالفضة خَرِف الذاكرة، سألته يومًا عن تاريخ إصابته فلم يستقر: هل كان في صيف 94 الموجع، أم نتيجة ضحايا اقتتال الإخوة الأعدقاء في يونيو الدامي؟ لم يستحضر تمامًا، بل بات يطمح أن يعود شابًا جدًا، ويقول: لقد جُرِحتُ في جمعة مارس الشهيرة، خلف ذلك الجدار الملتهب. ولا ألومه أبدًا، فمآسينا كثيرة جدًا، ولا يمرّ عقدٌ دون زَرِيَّة أو اقتتال.
سمعتُ ذلك التفجير الذي صنعه طبيب الأسنان جيدًا، وخصوصًا مطلعه، لحظة فكّ حاجز الصمت في عتمة ذلك الهدوء الجميل الذي كنتُه، وكانت فيه أسناني. كان المكان هادئًا وساحرًا. كنتُ أرى، بالقرب من ضفة ذلك الضرس المسكين، جبال السلفية العتيقة، والطبيب يطمئنني أنه لم يقتلع غير ذلك الضرس اللعين، المتربص شرًّا بي، وأنه لن يصنع إلا ما يُسعد جبال ريمة كلها.
كنتُ مطمئنًّا وأنا أتلمّس بلساني تلك الثقوب المصنوعة للتفجير، تحيط بالضرس الذي صوّروه شرًّا، فصرتُ فعلاً أكرهه، وأنتظر دماره. وها هو قريب.
لحظة الضغط الرهيب، التي سمعتُ في مطلعها تساقط أركان ذلك الضرس الشرير، خلتُني قد غبتُ عن الوعي من هول التفجير. ولكنني مِتُّ. متُّ تمامًا. ولم أسمع من السكون غير هسيس ورقة سقطت بهدوء من أعالي جبال السلفية المنتظرة الخضرة قريبًا، وسكنت في حضن شجرة "الثَّعبة"، وسمعتُ ختامًا تلك الجوقة: أصواتَ النحل تجمع رحيق أزهار "الثعبة" التي آوتني لموسم العسل القريب.
نمتُ طويلًا، ولم أكن شيئًا مذكورًا، حتى إذا ما استقر الليل، عاودني ألمًا أوجعني بشدة في أعماق تلك الحفرة العميقة في وجهي بعد استقرار غبار التفجير بهنيهة. وأجزم أن صوت الألم ذاك كان يحمل لثغة أحرف تلك العجوز المعمّرة، وهي تصرخ من جُرحها المركب: واحد في قلبها، والآخر استقرّ في رجل ابنتها.
عاود ألم حفرة ضرسي مجددًا، وذهب كلام الطبيب الماكر سُدًى. فلم يذهب الشرُّ بتفجير ضرسي، وإنما تجاوبت لصدى الأوجاع أضراسي القديمة وأوجاعها النائمة، وطارت تلك العصافير المنتظرة الربوع الخضراء والخريف المزهر في جبال السلفية.
٢ يوليو ٢٠٢٥