مقالات

عائلة التنانين السياسية التي أغرقت اليمن وأفشلت ثوراته

18/08/2025, 16:26:21
بقلم : فهمي محمد

في اليمن، ومن بين ركام الحرب التي لا تنتهي، يتكرر الزمن والحدث في رحلة عمر الإنسان والأجيال. ومن تحت أنقاض أحلام ثورة الشباب بفكرة التغيير المدنية، تتكرر العائلات الممانعة داخل المجال السياسي العام بشكل يحول دمَ الشهداء إلى كؤوس نبيذ في ملاهي الانتهازية السياسية التي تضحك على الذقون.
تطلُّ اليوم، كما هو حال الأمس، على اليمنيين عائلتان، تتصارعان على بقايا سلطة ضائعة، وتتصافحان في مناسبات عائلية على جثَّة وطنٍ تمزَّق بفعل تحالفاتها وصراعاتها منذ عقود.

إنها قصة "عائلة التنانين السياسية" – بيت صالح وبيت الأحمر – التي تُختزل فيها مأساة شعبٍ حالمٍ بسلطة الدولة الحديثة؛ تحالفاتٌ متقلبة، ثأراتٌ عميقة، ومشروع دولةٍ ديمقراطيةٍ دُفن أكثر من مرة تحت نزوات هذه العائلات وسعيها الأعمى للبقاء.

مع نجاح ثورة 26 سبتمبر في إسقاط الإمامة، فُتِحَ الصراع على إرثها السياسي. يومها رأى الشيخ عبد الله الأحمر، شيخ مشايخ حاشد، أن سقوط الإمامة يجب أن يُعيد الحق الطبيعي لسلطة مشايخ القبائل، وعلى رأسهم بيت الأحمر؛ ولهذا وظَّف نفوذه القبلي وعلاقاته المعقدة داخل المؤسسة العسكرية، وحتى علاقته الإيجابية مع قيادات 1948، ليصبح حارساً لـ"شرعية القبيلة" التي وقفت في وجه التوجهات المدنية والجمهورية الصاعدة.

عطفاً على ممانعته لفكرة التغيير الوطنية، لم يكن الانقلاب على الرئيس السلال (1967) سوى تتويجاً لهذه الرؤية؛ إحلالٌ وتثبيتٌ لسلطة المشيخة القبلية المستندة إلى وراثة سلطة الإمامة الزيدية (ولو بشكل معدَّل) في ظل الجمهورية. 

هكذا يُحدِّثُنا تاريخ الجمهورية (بما في ذلك مذكرات الأحمر نفسه) أن أولى معارك بيت الأحمر - التي لم تتقاعس عن قتال بيت حميد الدين بدافع الخصومة - كان هدفها تأسيس سلطة القبيلة السياسية، وليس سلطة الدولة الوطنية.

مع تولِّي الرئيس الحمدي ونجاحه في قيادة ثورة التصحيح - الرامية حينها لبناء دولة مركزية قوية تتجاوز سطوة القبيلة وتستقل بمؤسساتها الوطنية عن هيمنة المشايخ - بَرَزَ تحالف "عائلة التنانين" (بيت صالح وبيت الأحمر). تآمر هذا التحالف ليس على تصفية الرئيس الحمدي جسدياً فحسب، بل على دفن مشروع دولة النظام والقانون التي أرادها الشهيد الحمدي.

يقول حميد الأحمر في أحد مقابلاته المتلفزة إن خطأ الرئيس الحمدي هو أنه تحدى القبيلة، في حين أن الحمدي ينتمي لأكبر قبيلة في اليمن «بكيل»، لكنه أراد فقط أن يحرر الدولة من سلطة القبيلة. 

وهذا بالنسبة للشعب اليمني مَنجزٌ وطنيٌّ ومصلحة عامة، لكنه في نظر عائلة التنانين خطأ لا يغتفر ويستوجب اغتيال الحمدي.

لهذا نجد "عائلة التنانين" على نفس المنوال، تخوض معركتها المقدسة في سبيل إعاقة مشروع الوحدة اليمنية عام 1990م، وتُشعل حرب صيف 1994م التي اجتاحت الجنوب ودمرت أسس الوحدة اليمنية، التي مثَّلت أعظم الفرص التاريخية السانحة لتحويل اليمن إلى دولة ووطن.

بعد حرب 1994، شرع صالح في عملية إعادة هندسة دقيقة لمفاصل السلطة، ليس فقط عبر تغيير الأشخاص في قيادة الجيش، بل عبر تحويل الولاءات داخل الأجهزة المدنية والعسكرية من ولاءات قبلية تقليدية في حاشد وبيت الأحمر (التي كانت عماد ما عُرف بـ"سلطة القبيلة السياسية") إلى ولاءات شخصية وعائلية محضة في بيت صالح. هنا بدأ الشرخ الأول مع حلفاء الأمس، بيت الأحمر، ممثلاً في جناحه المشايخي (أبناء الشيخ عبد الله الأحمر) وجناحه العسكري القوي (اللواء علي محسن الأحمر). 

خصوصاً مع بروز ملامح التوريث السياسي؛ حيث سيطر أبناء صالح وأقاربه تدريجياً على مفاصل القوات المسلحة والأمنية، وسطع حضور أحمد علي في قيادة الحرس الجمهوري، بينما تم تقليص دور الفرقة الأولى مدرع، القوة العسكرية الرئيسية المرتبطة بعلي محسن الأحمر.

مع نجاح صالح في كل خطوة نحو التمركز العائلي، كانت الخلافات تتسع. حتى جاءت ثورة 2011 الشبابية التي كشفت الغطاء عن عمق التآمر والعداوة المستترة.

انحاز بيت الأحمر، ممثلاً في الشيخ صادق الأحمر وحميد وعلي محسن، إلى صف المتظاهرين، لكن دوافعهم لم تكن "حباً بالشعب اليمني أو انتصاراً لفكرة التغيير"، بل كرهاً لصالح وأولاده الذين سيطروا على مفاصل السلطة، ورغبةً في استعادة نفوذهم المفقود. 

وعلى وقع هذا الفرز بين الثورة والسلطة، تحولت ساحات الثورة إلى ساحة صراع بالوكالة، وبلغت المواجهة ذروتها في أحداث الحصبة الدامية (2011) بين قوات موالية لصالح وقوات من الفرقة الأولى وحلفائها، انتهت بمحاولة اغتيال صالح.

أجبرت الثورة الرئيس صالح على التنحي (2012) بموجب المبادرة الخليجية، وتم تغيير قيادات عسكرية محسوبة على الطرفين تحت مسمى هيكلية الجيش. لكن الخاسر الأكبر كان بيت صالح التي كانت مسيطرة على قيادة الجيش والأمن، بينما ظن بيت الأحمر، بوقوفه "في صف الثورة"، أن المستقبل سيكون من نصيبها. وهذا الاعتقاد ذاته كان محل قناعة عند صالح، الأمر الذي دفعه لاحقاً إلى التحالف مع أعداء الأمس، الحوثيين، بدافع الثأر ممن أسقطوه.

استطاعت الثورة أن تمنح المكونات السياسية اليمنية فرصة بناء أسس الدولة الوطنية الديمقراطية الاتحادية، التي تمخضت عن مؤتمر الحوار الوطني (2013-2014).

لكن أحقاد العائلتين كانت تتفاقم خارج قاعات الحوار الوطني. ولأن تحالف العائلتين في الماضي لم يكن في صالح الشعب اليمني، فإن أحقادهما المتجددة كانت وما تزال وبالاً عليه.

 لهذا ذهب تحالف صالح مع الحوثيين، إلى اجتياح صنعاء (سبتمبر 2014) وتمكن من القضاء على الفرقة الأولى مدرع وطرد بيت الأحمر من العاصمة، مستخدماً سلاح الحرس الجمهوري وولاءَه المتجذر فيه. وكانت النتيجة نجاح هذا التحالف الجديد في القضاء على الخصوم والانقلاب على مسار التحول السياسي الوطني في اليمن.

المفارقة أنه بعد ثلاث سنوات، تم التخلص من صالح وعائلته من قبل الحركة الحوثية بنفس سلاح الحرس الجمهوري (الذي تحول ولاؤه بالكامل للحوثيين)، لتصبح صنعاء تحت السيطرة الحوثية. ما يعني في النتيجة الأولى أن اليمن عاد إلى ما قبل ستين عاماً بسبب مغامرة العائلتين التي جرفت كل المنجزات الوطنية، وفي النتيجة الثانية أن العائلتين فقدتا السلطة والنفوذ المباشرين في صنعاء؛ ما بقي لهما هو حقد كل منهما على الآخر، وجامعٌ جديدٌ بينهما هو: كراهية الحوثيين والرغبة في إسقاطهم.

جاء التحالف العربي (2015) ليعيد تموضع العائلتين في مناطق "الشرعية"، لكن وفق معادلة القوة والنفوذ القديمة: أي منح بيت صالح نفوذاً سياسياً وعسكرياً أكبر من بيت الأحمر، لكن بمنطق التوازنات التي كانت قبل عام 2011م. ومع انكفاء التحالف عسكرياً واستمرار سيطرة الحوثيين، بدأت تلوح في الأفق إمكانية تقاربٍ بين العائلتين لمواجهة العدو المشترك. لكن هذه الرغبة تظل هَمًّا ثقيلاً على العائلتين، مُلقىً على محك الصعوبات: فهل تستطيعان أن تَتجاوزا عقدَيْن من الصراع الدامي، وبحراً من التوجس والشك، وحسابات مريرة تتعلق بالخسائر والغدر والتآمر؟

في اعتقادي، تستطيع العائلتان أن تَتجاوزا هذه الصعوبات في سبيل إسقاط حكم الحركة الحوثية، لأن ذلك يبدو في حاضر العائلتين ضرورة جيو-سياسية للبقاء على هيئة التنانين السياسية في البلاد. لكنهما بلا شك لا تستطيعان أن تخوضا معارك نضالية وطنية في سبيل الشعب وتحويل اليمن إلى دولةٍ ووطن لليمنيين على حساب مصالحهما اللّا وطنية! 

والسبب جوهري وتاريخي في نفس الوقت، فكلاهما كانا، عبر عقود، يجسدان حضورهما السلطوي فوق النظام والقانون وفوق فكرة الدولة. وكلاهما ساهم بشكل مباشر ورئيسي في إعاقة مشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية عبر عقود، وكلاهما يرى في الدولة الوطنية الديمقراطية الاتحادية أنها أكبر الموانع السياسية التي تعيق استمرار وجوده ككائن سياسي عائلي.

المثير للشفقة والسخرية في الوقت الحاضر أن بعض النخب السياسية والثقافية ما تزال تراهن على عائلة صالح، وبعضها على بيت الأحمر، في قيادة مستقبل اليمن، بعد أن أفشلتا كل المشروعات الوطنية وأغرقتا البلاد في حروب طاحنة. 

والأكثر مأساويةً في اليمن تتجلى اليوم في تلك الأحزاب السياسية الغير قادرة على أن تتخيل اليمن ومستقبل اليمنيين بوجوه جديدة من خارج عائلة التنانين السياسية!

مقالات

لماذا هاجمت جماعة الحوثي المبعوث الأممي غروندبرغ؟

ما الذي حدث؟ غروندبرغ قدّم إحاطة لمجلس الأمن انتقد فيها تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر وإصدارهم عملات جديدة (50 ريالاً معدنية و200 ريال ورقية)، واعتبرها خطوات أحادية تُعمّق الانقسام النقدي والاقتصادي، ودعا لوقف الهجمات البحرية فوراً (بيانات مكتب المبعوث وملف اليمن بمجلس الأمن).

مقالات

شيءٌ يسيرٌ عن الألم

لا شيئ يهزم العقل كالنفس، ولا شيئ يتحدى القلبِ كالعاطفه، ولا مكان لهما الاثنان، العقل والقلب أمام الغريزة" و"اللاوعي" في تفكير الإنسان بحياته وما بعدها.

مقالات

المولد النبوي لدى مليشيا الحوثي.. موسم للنهب

منذ شهرين، المليشيا الحوثية تمارس الابتزاز على نطاق شامل، تنهش جيوب التجار والمواطنين، تسرق المسكين والمقتدر، البائع والمهندس، بائع الحلويات والباعة المتجولون، وكل إنسان يعيش تحت قبضتها. كل نهب يحمل عباءة الدين، وكل ابتزاز يُقنع الضحايا بالقداسة الزائفة لما يفعلونه. المولد النبوي عندهم أصبح مناسبة للسطو على كل قيمة، على كل فكرة، على كل ذاكرة جماعية. آلة الطغيان تمتد يدها لتلتهم قوت الناس وعرقهم وتحوّل تضحياتهم إلى غذاء لشراهة لا تعرف الرحمة، مستغلة الدين كغطاء مقدس لنهب وممارسة القوة بلا حدود.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.