مقالات
جحيم غزة وجحيم أفخم قليلاً في اليمن!
عشتُ أيّامًا سيئة ومرهقة نفسيًّا. عزفتُ عن التفاعل مع محيطي ومع ما يحدث حولنا في العالم.
شعرتُ بالإحباط واللاجدوى، ووجدتُ نفسي مشدوهًا أمام ما يجري، وكأننا نقترب من يوم الحشر. مشاهد العطش وطوابير المنتظرين لمياه الشرب في مدينتي تعز تعضّ القلب. أزمة الكهرباء المزمنة في عدن، ومعاناة أهلنا هناك في هذا الفصل الساخن محزنة ومخجلة. محنة اقتصادية تطحن ما تبقّى من عظام الغالبية العظمى من اليمنيين، بلا رحمة وبلا أُفق.
ما هي الحرب إن لم يكن هذا الإذلال العظيم؟
لا قادة يحترمون أنفسهم، ولا فاعلين يكترثون لشعب يُفقَر ويُنهَك. بلدٌ يسبح على ثرواتٍ متنوّعة، ينهبها الغرباء وشغيلتهم المحليّون، في حين نمدّ أيدينا نستجدي العالم أو نموت جوعًا.
تُديم النظر حولك، فترى بلدًا عربيًّا عزيزًا لا يريدون له مغادرة المتاهة، المتاهة بما هي حالة دوران في دوّامة الحروب والصراعات والتفكّك.
على مدى أيام، تصدّرت سوريا كل شيء، من نشرات الأخبار إلى الشبكات الاجتماعية وأحاديث الجلسات الجانبية. ثمّة تهديد وجودي صهيوني للدولة السورية ككيان موحّد، تمامًا كالتهديد الذي يطال الكيان اليمني، لكن بأيادٍ عربية!
يهرع فصيل أقلّوي لرفع العلم الإسرائيلي واستدعاء نتنياهو وجيشه لقصف عاصمة بلاده. نتنياهو لا يقصف فحسب، بل يضع الخطوط والعلامات لتحرّكات السوريين في بلادهم. لا صوت يعلو فوق صوت إسرائيل، وقد استوت على عرش المنطقة تمنح وتمنع.
لن يتوقّف الأمر عند هذا الحد. ستتداخل الخطوط تمامًا، فالمليشيات الإيرانية في اليمن والعراق ولبنان، وموالوها الذين ملأوا الدنيا ضجيجًا بشعارات المقاومة والممانعة ومواجهة إسرائيل، ضُبطوا في سرير واحد معها في سوريا!
هنا تتّضح الصورة الفاقعة للمشروع الإيراني، باعتباره الوجه الآخر لإسرائيل. يتطابق الكيانان في الهدف والغاية، وإن ظهرا متناقضين في التفاصيل والشعارات. تسعى تل أبيب وطهران لتحويل المنطقة العربية إلى كنتونات طائفية، ممزّقة من الداخل وضعيفة، وفي الساحة السورية يتقاطعان ويتخادمان على نحو لا يمكن إخفاؤه الآن، مثلما كان في عهد الأسد.
يعكس ذلك سيرة الهوان التي تعيشها واحدة من أهمّ الأقاليم الجغرافية في العالم، موقعًا وموارد، في زمن الإقلاع الكبير لكل الأمم.
وعلى صلة بهذه الصورة وفي قلبها، تبرز فلسطين، لا باعتبارها "قضيّتنا المركزية الأولى"، بل لأنها صارت أكبر وأهم قضايانا المنسيّة!
من غزة النازفة الجريحة، القابعة في الجحيم الإسرائيلي، تأتي الصور لتسحق ما تبقّى من روحك.
يتراكم العجز العربي، بلوغًا إلى العار، فنغدو مجرّد كائنات بلا حسّ، لا تعرف معنًى لوجودها في هذا العالم. تشاهد صور الأطفال وقد التصقت جلودهم بعظامهم، ليس من سوء التغذية بل من التجويع المنظّم، الذي سلّطته عليهم إسرائيل وأمريكا، بعد إحراق وتدمير منازلهم وملاحقتهم إلى الخيام.
طوال قرابة العامين، كنّا نرمقهم من بعيد، وكأننا نتبرّأ منهم.
أشاهد نساءً يشبهن أمهاتنا، وفتياتٍ في عمر بناتنا وأخواتنا، يقفن في طوابير الانتظار ذابلات، أو يُوشكن على السقوط. ليس هناك أمّة تتعرّض لهذا الإذلال وهي صامتة.
صور ومشاهد من أهوال القيامة الموعودة كشفت كم أنّ هذه الأمة شبعت موتًا، رغم أن دواب الأرض لم تأكل "عصانا" فحسب، بل الجثة نفسها منذ زمن!
أبكاني منشور زميل الدراسة، الفلسطيني، وهو يُشهر جوعه.
يعمل أحمد أبو عزيز صحفيًّا في غزة، وكان أول طالب عربيّ تعرّفتُ عليه أثناء دراسة الماجستير في معهد الصحافة بتونس. كان أحمد شابًّا مثابرًا، حاز المرتبة الأولى على دفعتنا.
عرفتُ سجاياه عن قرب، وكما لقّبه "عزيز"، فهو عزيز النفس، ذو كبرياء، وعلى وجهه تبدو ملامح فلسطين، مزيج من البساطة والصلابة.
بعد 7 أكتوبر، لم يستطع أحمد العودة إلى تونس، لكنه مستمر كطالب دكتوراة. في أسوأ مراحل العدوان الوحشي الصهيوني، وحرب الإبادة والتهجير، حرص أحمد على مشاركتنا واحدًا من أنشطة لجنة الدكتوراة في المعهد من خيمته. هكذا يقاوم الفلسطيني محاولة محوه وتحويل حياته إلى مخيم.
لقد أخذت الحرب من الغزّي والفلسطيني كلّ شيء، لكنه بقي متماسكًا، متجلّدًا، رغم نزيفه اليومي، صابرًا أمام القتل الجماعي، يستبسل للبقاء على أرضه.
غير أنّ حرب الإبادة الصهيونية - الأمريكية للفلسطيني بلغت كمالها الآن.
لقد اتّخذت من التجويع سلاحًا بين الحين والآخر منذ بداية الحرب، ثم صارت نهجًا منذ أربعة أشهر، حتى صارت هذه الملامح الماثلة كما لم يحصل في التاريخ لأحد.
كتب صديقي أبو عزيز على صفحته: "أنا أحمد ... أعيش في غزة، وأكاد أسقط من الجوع".
لكأن زلزالًا ضرب كياني، فسقطتُ إلى جواره.
لا يقع الفلسطيني هكذا بسهولة، إلا وقد خذلناه أو طعنّاه من الخلف. إذا كان قد اقترف "جريمة" بنظر البعض، فالإبادة والإذلال ليست العقاب المكافئ. أين النخوة والشهامة؟
لا بضائع، لا سلع في الأسواق، ولا دقيق ولا خبز. لجأ البعض لأكل الأعشاب، وهناك من يلتقط بقايا الطحين المخلوط بالرمل.
لقد أدخلت أمريكا وإسرائيل الجوع كقاتل جديد إلى المعركة بصورة منظّمة. هناك أكبر تجمّع في العالم للمجوّعين على الأرض، تجمعهم شركة تتبع الجيش الأمريكي لإذلالهم بوعود المساعدات. تجمعهم الشركة على الأرض، فتقصفهم إسرائيل بالمسيّرات من الجو.
يبدو هتلر رحيمًا مقارنةً بنتنياهو وترامب وجيش الاحتلال.
خلال أيام قلائل، قتل الجوع المنظّم مئات الأطفال والنساء والعجزة. قُتلوا في قلب المنطقة التي منحت ترامب قبل أشهر 5 تريليونات دولار مكافأةً لمجازره رفقة نتنياهو!
من منشور صديقي أحمد أحسستُ غصّته في حلقي، وكأنه عاجز حتى عن البكاء، عاجز عن البكاء، مثلما قال إنه عاجز أيضًا أو خائف من إدخال لقمة إلى جوفه بعد طول انقطاع عنها.
هل تعرف معنى أن تعجز عن البكاء؟
كم ستبكي؟
على فقدان أهلك في الهولوكست الصهيوني المستمر، تدمير منزلك، ومحو ذكرياتك، تهجيرك، والارتحال الدائم من بقعة إلى أخرى في محنة بلا نهاية، أو تجويعك على مرمى حجر في محيط من أهلك؟
ثمانون عامًا من المأساة، ولم نفهم بعد لماذا كان يجب أن تكون فلسطين "القضية المركزية"، ويبدو أننا لن نفهم أنها هي من سيحدّد مصير المنطقة برمّتها. ثمانون عامًا لم نتعلّم كيف يمكننا أن نعثر على طريقٍ لسلامٍ مشرّف، ولا تعلّمنا كيف نحارب كأصحاب قضية. سلّمناها جاهزة للتجارة الإيرانية والجشع الصهيوني غير المحدود.
يحتاج الفلسطيني إلى كل دموع وحزن العالم ليحكي عن مأساته، ويحتاج العرب إلى عقودٍ للتطهّر والاغتسال من هذا العار.
أمّا نحن اليمنيين، ففي قسمٍ "أفخم" قليلاً في الجحيم، بفضل أولئك الذين يغسلون جرائمهم بزعم مساندة غزة، وبفضل عربٍ آخرين قالوا إنهم جاؤوا للقضاء عليهم وهم في طريقهم للقضاء علينا!