مقالات

أبو الروتي ( 23 )

23/02/2025, 10:52:24

كانت لعنة الأفُرَان تلاحقني، وكنتُ أول ما أبدأ بالتكيُّف  والتَّأقلم مع المكان، وبإقامة علاقات وصداقات حتى يطرأ طارِئ، وأجدُني أنتقل إلى فُرْن آخر وإلى منطقة أخرى، وأبدأ من الصِّفر. 

وبعد أن انتقلت من صف خامس إلى صف سادس ابتدائي، حضر أخي سيف  وطلب منِّي أن أنتقل معه إلى الفُرْن الذي يعمل فيه. ولحظة طلب منِّي ذلك، سرَت قشعريرة رُعب في جسدي، وشعرتُ برِيْقِي ينشَف، وبجفافٍ في حلقي، وبثقل في لساني، ولم أدرِ ماذا أقول له، وبماذا أردُّ عليه!! 

كنتُ منذ مجيئي من القرية  أسأل عنه، وأشتاق إليه، وأتمنَّى رؤيته، فقد كنتُ أحبه، وكنت مازلت مُنْسَحِرا بتلك الحكايات التي كان يحكيها لنا ونحن أطفال. 

كان يأتي من عدن، في شهر رمضان، لقضاء إجازته في القرية، وكانت ليالي رمضان -بفضل حكاياته- تغدو أشبه بليالي ألف ليلة وليلة.

ومع أن ظهوره المفاجئ بعد غياب قد أفرحني، إلا أنه  أخافني حين طلب منِّي أن أترك مدينة الشيخ عثمان. 

خصوصا، وأن تلك البنت الجميلة والفقيرة كانت قد فتنَتْنِي وسحرَتنِي، حتى إنني من شدة حبِّي لها صار من الصعب عليَّ مفارقتها، وصرت أفكر بخطبتها، وترك الدراسة، والبحث عن عمل يساعدني في دفع مهرها والزواج بها.

وكان ما جعلني اتخذ هذا القرار هو أن البنت الجميلة والفقيرة سألتني ذات يوم، وقالت لي: 

- "أنت مزوَّج يا عبد الكريم؟!".

قلت لها: "لا.. عادنا أدرس".

قالت: "وايَّنْ أحسن تتزوّج والا تدرس؟".

وكان أن أيقظني سؤالها هذا من غفلتي، وشعرت بأن الزواج أفضل لي من الدراسة، ومن أي شهادة. 

لكن أكثر ما أغراني بخطبتها والزواج بها ليس جمالها فقط وإنما بساطتها وإحساسها وذوقها أيضا، فقد كانت -رغم فقرها- تظهُر بكامل أناقتها، وتلبس ملابس بسيطة تزيدها جمالا، وتقول كلاما بسيطاً وحلواً، ثم إنها لم تكن تسخر من كلامي إذا تكلمتُ بلهجة القرية، وإنما كانت إذا سمعتني أنطق بكلمة غريبة تسألني عن معناها، وكان نهداها الصغيران يفاقمان من افتتاني بها، ويحرِّضاني على التقدُّم لخطبتها.

 ومع أنها لم تقل لي صراحة إنها تحبني إلا أنني كنت أشعر بأنها تكنُّ لي حباً كبيراً، وكنتُ أحس بحبِّها لي، وأكاد ألمسه  في كلماتها، وفي نظراتها، وفي "الرز والصانونة والسمك" الذي تحضره لي كل جمعة، وكذا في تلك اللحمة -لحمة العيد- التي كادت تودي بي إلى الهلاك.

أتذكَّر عندما أخبرتها بما حدث لي ليلة العيد أنها تألمت وراحت تتأسف، وتعتذر لي، وتطلب  منِّي أن أسامحها..

ولمَّا قلت لها إني سامحتها لم تصدِّقْني، وقالت لي: 

-"إحلف أنك سامحتني".

قلت لها: "والله إننا سامحتك".

كان ضميرها يعذِّبها حتى إنها راحت تواصل الاعتذار في كل مرَّة تأتي فيها إلى المحل، وفي اليوم، الذي حضر فيه أخي سيف، وكان يوم جمعة، أحضرت لي:

"رز وصانونة وسمك"، وقالت لي: "أمي تبلغك السلام".

ويومها فقط خطرت لي تلك الفكرة، وهي أن أكلم أختي بُنُود لتخطبها لي من أمها، لكن أخي سيف -وكان أخاً شقيقاً لأختي بُنُود- حضر في المساء لينقلني من المعلوم إلى المجهول.

وبعد أن فاجأني، وفجعني بالخبر، قلت له في محاولة منِّي للتهرُّب والتملٍُص:

-"يا سيف أنا أدرس بكلية بلقيس، وبلقيس بالشيخ عثمان".

قال لي إن هناك عدّة مدارس في عدن، وأفضل من كلية بلقيس. وعندما ذكر لي

"المعهد العلمي الإسلامي"، صرخت مفزوعا، وقلت له: 

-"المعهد، لا".

 قال لي: 

-"أسجِّلك بمدرسة با زَرْعَة".

وصحت معترضا: "بازرعة، لا". 

وقلت له إنني أريد البقاء في كلية بلقيس؛ لأنها أفضل من كل المدارس.

ورحت أحدِّثه عن الطلبة الذين من قريتنا، ويدرسون فيها، وذكرتُهم بالاسم، وكان في ظني أن تلك الحُجة سوف تجعله يغيِّر رأيه، لكنه قال لي: 

-"خلاص تجي معي، والدراسة  ادرس ببلقيس".

وشعرتُ، وأنا أركب فوق السيارة، كما لو أنّي نبتةٌ تُقتَلع من تربتها.

وعند وصولنا فُرْن العيدروس، داهمني شعور بالرُّعب ليس فقط لأني فارقت البنت التي بيني وبينها خبز وحب وملح،  ولكن لأني عندما وصلتُ أبصرت شُبَاطَة واقفا لي بالمرصاد.

وقبل أن يسلم عليَّ ويصافحني قال لي: 

- "تحسبنا -يا عبد الكريم- مش داري أنك دخلت السينما، داري، الخبر وصل لاعندي، وكلمت أخوك سيف، لكن أنا كنت قا حذَّرتك وكلمتك؛ حذَّرتك وكلمتك والا لا؟".

ولما لاحظ أنني تجاهلته، ولذتُ بالصمت، قال بنبرة محتدة:

-"إتكلَّم، وقل الصدق، حذَّرتك وكلمتك والا لا؟".

قلت وأنا أحاول السيطرة على انفعالي: "حذَّرتنا، وكلّمتنا".

واستأنف شباطة كلامه المستفز، وقال لي: 

- "مش قلت لك لو دخلت السينما باكلم أخوك سيف، قلت لك أو ما قلت لك؟!". 

وللمرة الثانية تجاهلته، ولذت بالصمت. 

قال لي، وقد استفزه صمتي: 

- "اتكلم وقل الصدق،؛قلت لك أو ما قلت لك؟".

قلت له -وأنا التفت ناحية أخي سيف التفاتة مفعمة بالألم-:

- "قلت لي".

قال شُبَاطَة بنبرة أكثر حِدة: 

-"طيب أيش اللي خلاك تدخل السينما؟! وليش دخلت وانا قا حذَّرتك، وقلت لك لو دخلت السينما باكلم أخوك سيف؟!".

ولحظتها فار الدَّم في عروقي، وصِحتُ بكل صوتي، مخاطبا أخي سيف: 

- "والله ما أجلس يا سيف عندك، با أرجع الشيخ عثمان عند أختي بُنُود".

قلت ذلك، واندفعت باتجاه الباب، وخرجت من الفُرْن، وفي نيَّتي العودة إلى مدينة الشيخ عثمان؛ لأكون قريبا من البنت التي أحببتها.

وكان أن تفاجأ أخي سيف برد فعلي، وجرى بعدي، ومسك بي وقال مخاطبا شُبَاطَة، وهو يعيدني إلى الداخل: 

-"خلاص -يا شُبَاطَة- عبد الكريم غلط، ودخل السينما، وأنا سامحته، وأنت سامحه".

قال شُبَاطَة، وهو يضحك: "وأنا  مسامحه". 

وكان وجود شُبَاطَة في فُرْن العيدروس نذيرَ شؤمٍ.

مقالات

غزَّة أولاً

حرب الإبادة على غزة، وصمود شعبها، فيه تقرير مصير أمَّتِنَا العربية، ومستقبل سيادتها على أرضها.

مقالات

"خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء" (2)

في أول اجتماعٍ حزبي كنا خمسة أو ستة أعضاء، ولم يكن بينهم أحد من قريتي، لكن خوفي كان قد تبخّر، وكان المسؤول الحزبي شخصاً في غاية اللطف، يقول كلامًا بسيطًا عن الظلم والعدالة وعن الحزب، وكنت قد بدأت أستلطفه.

مقالات

الحوثي.. وحشية بلا هوادة تفتت النسيج اليمني

لم يعد بيننا وبين الحوثي مساحة يمكن البناء عليها. لا رابط نقي يمكن ترميمه، ولا أرضية أخلاقية تصلح لحوار. ما فعله بهذه البلاد تجاوز حدود الخلاف، هوى بها إلى درك من الوحشية والتفكك، مزّق النسيج الاجتماعي، وحوّل الروابط إلى رماد. ارتكب مجازر لم توثقها كل الكاميرات، وقتل الآلاف بدم بارد. مارس انتهاك الكرامات، وسحق الحقوق، وزرع الخوف داخل كل بيت. من السجون خرجت صرخات لا تجد من يصغي، ومن البيوت خرج الناجون بلا ذاكرة، محملين بألم لا يُحتمل. لا يمكن توصيف الحوثي كجماعة مسلحة فقط، هو منظومة متكاملة لصناعة الرعب.

مقالات

فؤاد الحِميري: فبراير الذي لا يموت

عندما تتأمل قصائد وكتابات وأشعار فقيد الوطن وأديب فبراير، الأستاذ الثائر فؤاد الحِميري، تجد أنها جميعًا تصب في ينابيع مبادئ الحرية والكرامة ومقاومة الظلم. هذه المبادئ هي ذاتها الأهداف السامية لثورة 11 فبراير، ثورة الشباب السلمية اليمنية، التي كان الحِميري أحد أبرز شبابها وشاعرها الملهم.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.